الأحد، 8 فبراير 2009

القطار ....







القطار ................قصة قصيرة ..


الفصل الأول ..

كانت عقارب الساعة تقترب من الثامنة مساء ..
بينما كان هشام يرتب حقيبة صغيرة تحوى بعضا من أغراضه الخاصة التى تعود أن يستعملها في مثل هذه الرحلات التى تستغرق بضعة أيام لإنهاء أعماله في محافظة أخرى غير التى يقطن بها ،،،
أخذ يلقى نظرة أخيرة متعجلة على حقيبة أوراقه ، وهو ينظر إلى ساعته بين لحظة وأخرى بقلق شديد ، فقد أقترب موعد القطار الذي سيستقله في هذه الرحلة الطويلة وهو يحرص على عدم التخلف عن مواعيده ، وارتباطاته في الحياة ، هكذا تعود منذ الصغر .. وكانت من صفاته التى عرفها عنه الآخرين ، واكتسب ثقتهم بها .


وما أن انتهى من مراجعة أغراضه ، حتى حمل حقيبتيه وهرول مسرعا إلى الباب حيث استقل سيارة أجرة كانت تمر مصادفة أمام بيته ، وطلب من السائق الإسراع به إلى محطة القطار الرئيسية ..


كان كلما سافر في مثل هذه الرحلات ، انتابته مشاعر الملل من طول السفر ، وتلك الساعات التى تمر عليه بطيئة وهو جالس في القطار يطالع بعض الأوراق أو المجلات التى يصطحبها معه محاولا الخروج من حالة الملل التى تنتابه دون جدوى.. مرت بخاطره هذه المشاعر وهو يجلس على المقعد الخلفي من السيارة الأجرة التى كانت تتجه مسرعة إلى جهتها .. فتنهد بعمق .. آآآآآآآآه .. تانى ؟ هكذا بينه وبين نفسه ..


توقفت السيارة أمام المحطة بينما كان غارقا في أفكاره .. فنزل مسرعا بعد أن استدعى أحد الحمالين لمساعدته ، كانت خطواته مسرعة وهو ينظر إلى ساعاته بقلق وحيرة ..
حتى سأله الحمال : مالك يا بيه ؟ انت مستعجل ليه ؟
أجاب : القطر حا يفوتنى ..
قطر ايه يا بيه ؟
القطر اللى رايح محافظة ....
لسة بدرى يا بيه على القطر ، انت جاى قبل المعاد بساعة ..
ايه .. مش ممكن !!


فتوقف وهو يحملق في الحمال ، ولا يعرف ان كان جادا في قوله أم يسخر منه .. ودس يده في جيبه ، وأخرج تذكرة القطار ليتأكد من موعد القطار ، فكانت المفاجأة ، لقد كان الحمال على صواب .. ان القطار سيغادر المحطة في الساعة العاشرة ، بينما كان يعتقد أن موعده التاسعة .. وتساءل في داخله عن سبب هذا التخيل الخاطئ ، فلم يجد تفسيرا .. فأخذ يجفف عرقه قائلا للحمال :

خدنى على الزفتة الكافتيريا .. أمرى لله .. هى ليلة باين عليها مش فايتة ..
لا حول ولا قوة الا بالله .. هكذا أخذ يردد في همهمة ملتهبة ..


كانت الكافتيريا مزدحمة بالمسافرين ، وكانت هناك في أحد الأركان طاولة وحيدة خالية من الزبائن ، فتوجه إليها بلهفة ، وكأنه في سباق مع نفسه .. فقد كان يخشى أن يسبقه إليها أحد غيره ، وهو يكاد يشتعل غيظا مما هو فيه ، ناظرا إلى ساعته ببلادة شديدة هذه المرة .. يفكر .. كيف ستمر عليه الدقائق وكأنها ساعات ..


جاءه النادل سائلا : تحب تشرب ايه يا باشا ؟
فأجابه : ادينى يا ابنى فنجان قهوة ..
فسأله : قهوتك ايه يابيه ؟
فأجابه على مضض : سادة ..
ومد يده إلى جيبه ليخرج علبة سجائره .. وحينما شرع في إشعالها ، وقع بصره على فتاة تجلس وحيدة على طاولة في الركن المقابل ، وكانت تمسك بيدها كتاب صغير ، تطالع صفحاته واحدة تلو الأخرى ..

أشعل سيجارته .. وبدأ ينفس دخانها في الهواء محاولا التوجه بنظره إلى حركة المارة في ساحة المحطة ، حتى أحضر عامل الكافتيريا القهوة المطلوبة ، ووضعها أمامه .. فتناولها ليأخذ منها رشفه .. فاذا ببصره يقع مرة أخرى على تلك الفتاة التى تجلس على الجانب الآخر .. فوضع الفنجان .. وتوجه ببصره إلى الجانب الآخر من الكافتيريا محاولا تجنب النظر إليها .. فلماذا ينظر إليها وهى تجلس بعيدة عنه ، كما وأن لها وجهة تختلف عن وجهته بالتأكيد .. هكذا المنطق ..


ولكنه خالف المنطق ، وأخذ ينظر إليها متأملا .. يريد أن يعرف عنها أى شيئ ، والى أين تتجه .. ولم يجد لنفسه تفسيرا .. ولكنه حاول أن يقنع نفسه بأن المسألة مجرد قتل للوقت والملل ، ولكن يبدو أن القدر كان يخبئ له شيئا آخر ..
--------------------------------------------------------------

الفصل الثانى ...

حاول هشام أن يرفع عينه عنها أكثر من مرة ، ويلهى نفسه باشعال سيجارة من آن لآخر ولكنه لم يتمكن ، فاستسلم لمشاعره ، وأصبح لا يرفع بصره عنها رغم بعد المسافة بينهما ،


كانت الاضاءة خافتة في الركن الذى تجلس فيه .. ولكنها كانت كافية ليكون تصورا عن شخصيتها ، فهى من ذلك النوع الذى يهتم بمظهره وأناقته ، كانت ترتدى ألوانا متزنة ومتناغمة ، ووضعت فوق رأسها قبعة راقية وفقا لأحدث صيحات الموضة ، وطوقت عنقها بمنديل كبير من الحرير الأحمر الذى عكس لونه بفعل المصباح الوحيد الذى كان يعلوها على وجهها الأبيض ، فأعطاها لونا خمريا جميلا ..


كانت تجلس بكبرياء وكأنها أميرة ، تطالع ما بيدها من كتاب صغير ، وتمد يدها برشاقة من آن لآخر لتتناول كوبا من العصير على الطاولة لتحتسى بعضا منه ، فكانت من الرقة بحيث يظن من يلاحظها أنها تتناول الكوب لتقبله ، وليس لتشرب منه .. فأعجبه هذا التصور ، وأخذ يتأمل هذه الحركة متمنيا ألا ينتهى العصير من الكوب ، حتى تتاح له فرصة مراقبة لقاء شفتيها الرقيقتان مع الكوب في كل مرة .. لم تكن لتأبه لمن حولها ، وكأنها غارقة بكل حواسها فيما تقرأ ، ولم تنظر حولها أو إلى ساعتها ، وكأنها تعلم تماما متى تنصرف إلى وجهتها ، أو كأنها نسيت تماما ما تنتظره ..


صحيح .. أكانت تنتظر قطارا .. ؟ أم تنتظر شخصا .. ؟ ومن هو .. ؟


دخل هشام في دوامة من الأسئلة والتخيلات ، دون أن يستقر على اجابة ، ولكنه لم يرفع بصره عنها ، وتعجب لعدم اكتراثها بمن حولها ، رغم ما في المكان من زحام وضوضاء .. ففكر أن يلفت انتباهها ، ليرى عينيها ، فحاول السعال بصوت عال ، فلم ينجح .. أسقط منفضة السجائر على الأرض ، وكانت من المعدن الثقيل .. دون جدوى فزادت حيرته .. من هذه الانسانة .. ؟؟ ولماذا هى بهذا القدر من الثقة والاتزان .. ؟؟ وكاد حب الاستطلاع أن يقتله غيظا وحيرة .. ولكن ماذا يفعل .. ما باليد حيلة ..

وانت مالك بيها !! عاوز منها ايه !! ما تخليك في حالك !! أما انك متطفل وحشرى صحيح !! انت غاوى مشاكل يا بنى آدم .. ؟؟ هكذا حدث نفسه .. ولكنه لم يسمع ..


وفجأة .. استيقظ من أفكاره وانفعالاته على صوت الإذاعة الداخلية للمحطة ، تعلن عن قيام القطار رقم .... المتجه إلى .... بعد خمسة عشر دقيقة ..


لم يتحرك من مكانه ، ولم يلحظ على تلك الفتاة أى تأثر بما سمعت ، فأستدعى عامل الكافيتريا ، وسدد له الحساب ، وأخذ يتلكأ عل الفتاة تتحرك من مكانها .. ولكنها كانت غارقة في كتابها .. فأيقن أنها لا تنتظر نفس القطار .. فأسقط في يده ، وقام من مكانه بخطوات متثاقلة ، يشعر بالحسرة والندم .. وتوجه ليستقل القطار ، حتى جلس في مقعده رقم 20 B ..


بدأ يشعر بالملل من جديد ، بعد أن مرت عليه الوقت بالكافتيريا وكأنه ثوان معدودة .. وكان يتمنى أن ترافقه تلك الأميرة ، فقد كان يأمل أن تقتل الوقت والملل الذى كان دوما يشعر به .. ولكن لا مجال للتمنى .. فقد أوشك القطار على التحرك ، فاسترخى في مقعده .. ومدد قدماه إلى الأمام ، والقى برأسه على مسند المقعد .. وأغمض عينيه مستسلما .. وبدأ القطار يتحرك ..

لم يشعر هشام بشيء بعد ذلك .. ولكنه تنبه على أصابع رقيقة تلمس كتفه ، وصوت رقيق يكاد يكون همسا ، بل كهمس الموسيقى ، قائلا له ..

ممكن من فضلك أعدى علشان أقعد مكانى ؟؟ مش ده برضه كرسى رقم 21B ..؟؟
فقال لمحدثته : نعم هو ، وبدأ يعتدل في جلسته حتى تمر إلى الكرسى بجانبه .. وعند مرورها .. القى نظرة سريعة عليها وهو شبه نائم .. ولكنه فجأة .. كمن لدغه عقرب ، أخذ يفرك عينيه مشدوها مما رآه .. لا يصدق نفسه .. كانت هى !!!!!!!

--------------------------------------------------------

الفصل الثالث ...

انتاب هشام شعورا غريبا .. فبالرغم من أنه كان في العقد الخامس من عمره وكانت له علاقات متعددة بالجنس الآخر سواء من خلال عمله أو علاقاته الاجتماعية أو علاقاته العامة ، الا أنه أحس بدقات قلبه عالية .. وعندما كان يجلس بالكافتيريا ، وكانت بعيدة عنه ، كان يتمنى أن يقترب منها ويتحدث إليها ، أما الآن .. وقد أصبحت بجواره ، تجمدت الكلمات في حلقه ، وشعر بأن تفكيره قد تجمد ، وغرق في صمت من عميق ...


استقرت هى في مقعدها .. جلست برهة تنظر من النافذة بجوارها ، ومرت دقائق قبل أن تفتح حقيبة يدها وتخرج القصة التى كانت تقرأ فيها ، في هذه اللحظات لمح هشام غلاف القصة ، كانت قصة عالمية شهيرة " ذهب مع الريح " ... وكانت هى في صفحاتها الأخيرة ، ويبدوا أنها كانت تحرص على الانتهاء منها .. فوجد أن الوقت لا يسمح بمغامرة الحديث إليها ، فأحترم رغبتها ، وتركها تطالع القصة بشغف ملحوظ ...


كان يتظاهر بالنظر نحو النافذة المجاورة لها ، ولكنه كان يسترق النظر إلى ملامحها وتفاصيل وجهها وملابسها بعد أن أصبحت قريبة منه .. كان يريد أن يشبع عينيه منها عن قرب .. ولكن دون أن تلحظ هى ذلك ..


كان القطار ينهب الأرض نهبا .. ويشق طريقه بين ظلام الليل الدامس ، وما ان وصلت الساعة إلى الحادية عشر ، حتى خفض سائق القطار الأضواء إلى أدنى درجة ، وأصبحت مصابيح القراءة هى المتاحة لمن يحتاج إليها .. فأضاءت هى مصباح القراءة واستكملت انهاء القصة ، وفى خلال عشر دقائق كانت قد انتهت من الصفحة الأخيرة .. فتنهدت بعمق ، واسترخت بظهرها على ظهر المقعد ، وأرسلت نظرها إلى سقف القطار ، وكأنها مازالت تعيش في أحداث القصة ، أو تحاول أن تقييم نهاية القصة .. احتمالات كثيرة ولكنها في النهاية انتهت من القراءة .. فوجد الفرصة مناسبة للتحدث إليها :


- عفوا .. هل يضايقك أن أشعل سيجارة ؟
- اطلاقا .. يمكنك ذلك ، فقد اخترت مقاعد المدخنين ، لأننى أحب أن أدخن أحيانا ..
- اذن .. هل تسمحين بقبول أحد سجائرى المتواضعة .. ؟
- شكرا .. فأنا لا أحب التغيير ..
وأخرجت من حقيبتها علبة سجائرها ، فبادر هو باشعالها .. وكانت فرصة ليلقى نظرة عن قرب على رقة أصابعها ، ونضارة شفتاها ..
- شكرا .. قالت له بهمس .. فقد كان الجلوس من حولهما قد راحوا في سبات عميق .. ولم تشأ أن تزعجهم ..


كانت بادرة طيبة لتبادل الحديث ، أحس بسعادة بالغة ، وبأن الظروف كانت مهيأة لذلك ، فاختصرت الطريق عليه ، وقد كان يخشى الاحراج لو حاول محادثتها على غير رغبة منها ...

-------------------------------------------------------------


الفصل الرابع ....

أحس هشام بأنها أخذت انطباعا عنه بأنه انسان عاقل ، يشغل وظيفة هامة في شركته ، تبدوا عليه مظاهر الاحترام ، وكان يكبرها بعشرين عاما .. فكانت هذه العوامل مدعاة للتعامل معه دون خوف أو شك ، وفتحت معه جسرا للحوار ..

سألها : هل أتشرف بمعرفة اسمك ؟
أجابت : الهام ..
- هل تعملين بالقاهرة .. ؟
- لا .. فأنا من محافظة ......
- اذن كنت في زيارة خاصة .. ؟
- كنت في زيارة لاحدى قريباتى بمناسبة زواجها ، فهى صديقة عمرى ..
- هل تحضرين للقاهرة كثيرا ؟
- هذه هى المرة الثانية .. ولولا أنها انتظرتنى في المحطة عند حضورى ومغادرتى .. لكانت مشكلة بالنسبة لى ..
- ما رأيك في فنجان من الشاى بكافتيريا القطار ..؟
- لا مانع .. فكرة طيبة .


انتقلا إلى عربة الكافتيريا .. وجلسا على طاولة في نهاية العربة ، كانا يبحثان عن مكان هادئ ، فقد كانا يفضلان ذلك .. ويبدوا أن هذه الصفة كانت مشتركة بينهما .. فكانت أول نقطة توافقا حولها .. دون ترتيب مسبق ..


جاء عامل الكافتيريا ، فرحب بهما ، وسألهما عن طلبهما ، فطلب منه هشام فنجانين من الشاى مع بعض قطع الكيك الخفيف .. وأشعلا لفافتى تبغ .. واستكملا الحديث ..


أحس كل منهما أنه يريد أن يعرف كل شئ عن الآخر ، وكان كل منهما يحب أن يستمع إلى الآخر عندما يتحدث .. وشعر كل منهما بأنه يقترب من الآخر أكثر فأكثر .. واكتشفا أنهما ذو شخصيتان متطابقتان في معظم الصفات .. بل أن أنهما وصلا إلى درجة عالية من التفاهم ، وكان ذلك مدعاة للراحة النفسية لكلاهما .. فزادت لهفة كل منهما إلى حديث الآخر .. وبين متحدث ومستمع .. مرت الدقائق والساعات ..


كانت الصفات بينهما متطابقة ، والعقليات متقاربة ، وان كانت هناك بعض الاختلافات في وجهات النظر حول بعض الموضوعات ، وكان ذلك شيئا طبيعيا بحكم اختلاف السن والخبرة .. والظروف الاجتماعية ، ولكن لم يكن الاختلاف في الرأى يشكل قلقا بينهما ، فقد وصلا إلى مرحلة متقدمة من التفاهم والتكامل .. والانسجام ، والراحة النفسية ، حتى أنهما كان يتمنيان أن تدوم هذه الجلسة .. لولا أن القطار كان يسير مسرعا ، يطوى الأرض والوقت طيا ، على غير هواهما ، فحاول كل منهما أن يستمتع بما سمحت به الظروف من الراحة النفسية .. وتركا المستقبل للقدر .. ولم يفكرا فيما سيحدث بعد قليل من الوقت ..


- ما رأيك في الحب ؟
- مشاعر جميلة .. والحب أساس السعادة ..
- ألا يمكن أن يسبب الحب أحيانا بعضا من العذاب ؟
- ممكن ..
- ألا يمكن للانسان أن يندم على أنه أحب ؟
- أحيانا .. ولكن لماذا الندم ؟
- لأن الانسان يشعر بأن الحب قد جعله يتغاضى عن عيوب وأخطاء الحبيب ومن ثم يلتمس له العذر ، ولكن بعد أن يكتمل حبهما بالزواج ، ويخرجان إلى معترك الحياة وتجاربها ، يكتشف أحدهما أن الحب وحده لا يكفى للتغلب على أمواج الحياة العاتية .. وأنه يمكن أن يعانى أحيانا بسبب هذا الحب ...
- وهل تعتقد أن المحب يمكن أن يعترف بأن قراره في يوم من الأيام ، قد جانبه الصواب ، أو أنه لم يصدر حكما مجردا على الطرف الآخر ؟
- في معظم الأحيان ، لا يعترف الانسان بذلك ، فقد كان يقنع العالم كله بأنه على صواب في حبه ، بل ويحارب من أجل أن يخرج هذا الحب إلى النور ويثبت للعالم كله أنه على حق .. فيكون من الصعب عليه أن يعود ويعترف للناس بالحقيقة التى تظل دفينة في أعماق قلبه .. مدى الحياة .
- بالمناسبة .. هل أنت متزوج ؟
- نعم ، ولى من الأولاد ثلاثة .. وماذا عنك ؟
- أنا متزوجة منذ سنوات قليلة ، ولدى طفلان ..
- تزوجت عن حب ؟
- نعم .. وحاربت العالم من أجل حبى ..
- أتشعرين بأنك نجحت في الاختيار ؟ وأنك نجحت في حبك ؟
- نعم .. بكل تأكيد .. وان كانت هناك بعض الاختلافات في الطباع .. لكننى أحب زوجى ..
- ولكنك لا ترتدين خاتم الزواج .. !!
- لأننى أشعر أحيانا ببعض الحساسية في أصبعى ، فأخلعه وأضعه في حقيبتى لبعض الوقت .. ثم أرتديه مرة أخرى ..
- ولكن .. ألا يمكن أن يسبب ذلك سوء فهم لدى الآخرين ، فيتعاملون معك على أساس أنك غير مرتبطة ، فيسببون لك بعض الحرج ..؟؟
- أنا أعرف كيف أخبرهم أو أذكرهم بذلك في الوقت المناسب .. أجابت بثقة
- وهل من المعقول أن يتركك زوجك تقومين بهذه الرحلة وحدك ؟
- انه يثق بى ، وبعقلى وشخصيتى .. كما أنه رأى البقاء مع الأولاد ، كما أن عمله لم يسمح له بالسفر في هذه الرحلة السريعة .. وبالمناسبة ، سيكون في انتظارى مع الأولا في محطة الوصول ..


شعر هشام بأن هناك فجوة تتسع بينه وبين هذه الانسانة التى أحس نحوها بمشاعر لم يسبق أن شعر بها في حياته .. حتى أنه ظن لبعض الوقت أنه أحبها .. وأحب فيها الشخصية والعقل والصفات التى طالما كان يبحث عنها على مدى سنوات طوال .. ولكن كيف يسمح لنفسه بهذه المشاعر المحرمة ، وهو لم يتعود على الخيانة ، أو أن يدفع أحد إلى الخيانة .. فعاش لحظات صعبة من العذاب والصراع مع النفس .. ولكن قيمه وأخلاقه تغلبت في النهاية ، وأحس بأنه يجب أن يكون سببا في اسعاد الآخرين ، وليس لتعاستهم ، هكذا كانت مبادئه دوما .. ومن هنا كانت الفجوة النفسية التى أحس بها .. لم يكن له مكان هناك ..


- على فكرة أنا متشكرة خالص على الوقت الظريف ده ، وعلى فنجان الشاى والكيك ، وعلى الدردشة الجميلة ، ولن أنسى هذا اللقاء .. ايه رأيك .. نرجع أماكننا في القطار .. ؟
- كما تحبى ..

وافق ، وقد أحس بأن هناك من يخلع قلبه من صدره .. ولكنه استسلم لرغبتها ، وعادا إلى مقعديهما ، استلقى كل منهما على مقعده ، وكان الوقت قد أصبح متأخرا ، وأحس كل منهما برغبة في أن يغمض عينيه على آخر وأجمل لحظات عاشها منذ قليل .. ففعلا ..


مرت دقائق ، وفتح هشام عينيه .. فلاحظ أن محطة وصوله قد أقتربت ، فأستعد لمغادرة القطار ، وعندما نظر إلى جواره .. كانت هى في سبات عميق فقد كان هناك مزيدا من الوقت لكى تصل الى محطة وصولها ، فلم يستطع أن يوقظها ليسلم عليها قبل الرحيل .. فنظر إليها نظرة طويلة وهى نائمة بوجه برئ ، وكأنه أراد أن يشبع ناظريه من هذا الوجه الجميل .. ولكن القطار وقف في المحطة .. فغادر بهدوء ..


وقف على رصيف المحطة ينظر إلى القطار ، ولم يشعر بمن حوله .. حتى تضاءل القطار في عينيه ، وغاب في ظلام الليل .. وحمل معه أجمل ذكريات وأرق مشاعر ..
خرج من محطة القطار بخطوات متثاقلة .. واستقل أحد سيارات الأجرة .. وجلس في المقعد الخلفي ، سارحا فيما مضى .. فإذا به يسمع أغنية يحبها من مذياع السيارة ، وكانت تنساب بصوت خافت ..

يا حبيبي .. كل شيء بقضاء ..
ما بأيدينا خلقنا تعساء ..
ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم ..
بعدما عز اللقاء ..
فإذا أنكر خل خله ..
وتلاقينا لقاء الغرباء ..
ومضى كل الى غايته ..
لا تقل شئنا ..
فان الحظ شاء ....

فأخرج هشام منديله ، وأخذ يمسح دمعة انسابت على وجنتيه .. في هدوء حتى لا يلحظه سائق السيارة .. وابتعد القطار .. ..أنه