الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

رسالة الى إبنى .... فى الغربة

عندما أكتب هذه السطور تكون أنت قد وطأت أرض الغربة .. بعيداً عن أسرتك التى لم تفارقك من قبل وإحتضنتك سنوات طوال منذ نعومة أظافرك .. عندما حلقت فى السماء مفارقا .. أخذت قلبى معك ، وأغرورقت عيناى بالدموع ...
إن عزائى الوحيد فى فراقك ، أنك فى مهمة مقدسة ، فإذا كنت قد سافرت لتستكمل دراستك الجامعية ، أى فى طلب العلم .. فأنت فى سبيل الله .
وإذا كنت الآن بعيداً عنا .. فتأكد – كما أخبرتك – أنك لست وحدك ، فإن معك من سيرعاك ويحميك ويدفع عنك كل مكروه ، ويخفف عنك آلام الوحدة .. سيؤنس وحدتك ويوفر لك الراحة النفسية والهدوء والسكينة بل والسعادة بالرسالة المقدسة التى سافرت من أجلها .. سيبعد عنك أصدقاء السوء ، ويقرب إليك من يوفرون لك الأمن والأمان والثقة ، سيرشدك الى الطريق الصحيح .. ويكافئك بالنجاح على الجد والإجتهاد والإخلاص فى تحصيل العلم ، سينير لك الطريق فى الظلام .. فلن ترى ظلاماً أبداً ، سيجعل لك الصعب سهلاً ، والمستحيل ممكناً .. ستكون آمناً مطمئنا به ومعه ، سيصاحبك التفاؤل والإطمئنان أينما ذهبت ، سيكون طبيبك العظيم صحياً ونفسياً .. فتظل صحيح الجسد ، هادئ النفس ، مشرق الوجه ، قوى الاحتمال .. إنها فرصتك للفوز بهذا الخير كله ... ولكن بشرط :
هذا الراعى العظيم .. سيكون معك دائما ، ولكنه يدعوك لزيارته فى بيته خمس مرات فى اليوم ، فكن حريصاً على لقائه ومناجاته بقراءة كلماته الجميلة العظيمة .. هو كريم فى العطاء ، فلا تحرم نفسك من عطائه .. نحن الآن عاجزون أن نكون بجوارك .. ولكنه القادر الوحيد على رعايتك حق الرعاية .. لقد إستودعناك الله ، الذى لا تضيع ودائعه .
يابنى ... لقد سافرت بعيداً ، ولا أدرى إن كنت سألقاك بعد ذلك أم لا .. ذلك فى علم الله وحده ، فإذا قدر الله لنا اللقاء بعد عودتك غانماً موفقاً فى مهمتك ، فسوف نجلس سوياً لنسترجع سنوات البعاد والشوق ، ونقيم تجربتك لنحولها دروساً فى الحياة تنقلها الى أولادك من بعدك ، فالعلم فريضة مقدسة واجبة علينا ، وهى سبيلنا لنجعل من أنفسنا قيمة ننفع بها أنفسنا والآخرين ، ونبنى بها أوطاننا التى ندين لها – بعد الله – بالأمن والرعاية ، ونرفع بها راية الدين ، ونعز بها الإسلام .. فيعزنا الله .
أما إذا قدر لى أن ألقى الله قبل لقائك فى الدنيا .. فلا تنسانى بالدعاء ، ولا تنسى وصاياى لك بعمل الخير ما حييت ، فإن ماعندنا ينفذ .. وما عند الله باق ، ولا تهمل أهلك ، وحافظ على صلة الرحم ، وكن دئما حامداً شاكراً لله صاحب الفضل كله .. أستودعك الله الذى لا تضيع ودائعه ...

الثلاثاء، 29 سبتمبر 2009

إبحار فى محيط الذكريات


إبحَــــــــار .............
فى محيط الذكريات ........

( 1 )
إلتقيت بها صدفة ، رتبها القدر ..
جمعتنا ظروف العمل ..أحس كل منا بأن هناك شيئ يجذبه للآخر ، فكانت نظرات متبادلة بين الحين والآخر ، تريد أن تستكشف ذلك السر الكامن داخل كل منا ، لكن كل منا كان حريصا على المظهر الاجتماعى ، وألا يلفت نظر أحد ممن حولنا حتى لا تشوب هذه المشاعر الجميلة أية عقبات تحول دون نمائها ، لاسيما وأنها كانت كالنبتة الصغيرة التى تحتاج لمن يحوطها ويحميها من أية عوامل محيطة بها قد تعصف بها وهى ما زالت فى أمس الحاجة الى الرعاية .. حتى تنمو وتصبح شجرة كبيرة قوية تحمى نفسها .. تثمر أجمل المعانى .. وستظل بها الآخرين من الأحباب فى عالم الرومانسية الجميلة ..
كانت تبدو فى نظر الآخرين على أنها الانسانة المغرورة بجمالها ، فقد أنعم الله عليها بصفات الجمال الذى تتمناه كل أنثى .. كان الآخرون يشعرون بأنها تتعامل معهم من أعلى .. وربما كانوا يشعرون بكبريائها ، وترفعها ، بحكم نشأتها الراقية بأحد الأحياء المتميزة فى مدينة القاهرة .. وأسرتها التى تنتمى الى أصول تركية رفيعة ، ووالدها الذى كان يشغل وظيفة رفيعة كأستاذ فى أحدى الجامعات الحكومية الهامة ..
كانت نظرة ظالمة من الآخرين .. لأنهم لم يطلعوا على الحقيقة .. وكيف يعرفونها وقد إحتفظت بها خلف جدران عالية من الرسميات فى التعامل ، والتحفظ فى الحديث .. فلم يعاشرونها أو يقتربوا منها .. وكان لهم العذر .. فلم تكن تسمح لأحد بهذا الاقتراب .
كم أنت غريب أيها الزمن ...
تعطى للآخرين إنطباعا عن أناس .. بأنهم يملكون كل شيئ ، ينعمون بعذاب الآخرين ، يملكون القوة والجبروت ، لا يعرفون الرحمة ، مغرورون ومتكبرون ، لا يملكون العاطفة .. لا يعرفون الانسانية ،،،
وهم فى الحقيقة ضعفاء .. يعانون من ظلم البعض الآخر .. يحملون هموم تنوء الجبال بحملها ، لا ينامون الليل كما ينام منتقديهم ، يبحثون عن الحب والحنان ، يتسولون الرحمة فى صمت وصبر .. يتألمون من العذاب ، كمن يتقلب على جمار النار .. يشعرون بينهم وبين أنفسهم أنهم أوشكوا على الانهيار ، يحلمون بزراع قوية تشد من عضدهم ، وتحول دون سقوطهم ، لكنهم فى النهاية .. وبرغم من حولهم ، يشعرون بأنهم يقفون وحدهم فى صحراء قاسية ، لا يحيط بها سوى الضباع والذئاب التى تتحين الفرصة لينهشوا جسدها الرقيق ..
وما زلنا على حافة المحيط.. نستعد للابحار ...........

( 2 )

كانت زميلة لى فى العمل .. بالادارة المجاورة .. بنفس الطابق ..
كان كل منا يحرص على أن يظهر بأنه ألتقى بالآخر صدفة .. فيلقى عليه تحية الصباح ، وكان كل منا يسعى الى الآخر كلما تأخر عنه .. كم كانت تحية الصباح جميلة ، وممتعة وهامة ، ولكننا كنا نخفى حقيقتها كنوع من التحفظ تلافيا للحرج وحفاظا على الكرامة والمظهر العام ، بالرغم من إحساسنا بأهميتها وحلاوتها ، فقد كانت تبعث فينا نوع من السعادة والتفاؤل والأمل والنشاط كل صباح .. وصرنا نقترب من بعضنا رويدا رويدا ...
ذات صباح .. كنت صاحب المبادرة الأولى ، فأنتهزت فرصة إلقائها تحية الصباح ودعوتها لتناول قدحا من الشاى .. فترددت لحظات ، وكأنها تريد أن تجرى بعض الحسابات الشخصية على هذا الموقف المفاجئ .. ولكنها رحبت بالفكرة .. وجلسنا
تجاذبنا أطراف الحديث فى الأمور العامة .. ثم تطرقنا الى بعض أمور العمل .. وتحولنا شيئا فشيئا الى النواحى الشخصية ، كالهوايات والاهتمامات .. وقضاء وقت الفراغ .. ثم عبرت لها عن إعجابى بذوقها فى إختيار ملابسها بعناية .. وإمتدحت فيها عدم المبالغة فى إستخدام مساحيق التجميل ، وعقبت بأن ذلك أمر طبيعى .. لأنها لا تحتاج الى ذلك .. فقد منحها الله قدرا من الجمال الطبيعى الذى تتمناه كثيرات .. وأحسست بنظرتى فى أعماق عينيها ، بأنها تكاد تقفز سعادة بما سمعت ، وقد علت وجنتاها حمرة الخجل ، ومع ذلك حاولت أن تتماسك بالقناع المتحفظ ، وأكتفت بكلمة " مرسى " .. ولكننى كنت قد حصلت من المعانى والأحاسيس على أكثر من ذلك .. لقد حصلت على تصريح بالحديث الشخصى ..
أرادت أن تهرب من الموقف قبل أن تظهر عليها بعض المشاعر التى تريد أن تخفيها ولو مؤقتا .. وأن تحتفظ بتماسكها قبل أن ينهار ، فالأنثى هى الأنثى .. لاسيما عندما تسمع كلمات تحبها من رجل يحتل مانة خاصة بالنسبة لها .. فتلعب الكلمات دورا فى دغدغة العواطف .. ومداعبة القلب ، ولكن الصراع بين الأحاسيس والمظاهر ، كان يحسم لصالح المظاهر فى بادئ الأمر .. والى حين ،
إستأذنت فى الانصراف بحجة العمل .. ولم أشأ أن أثقل عليها ، فاستجبت لطلبها ، وطلبت منها ألا تتردد فى تكرار مثل هذه الجلسات كلما سمحت الظروف ، وكلما أحست برغبتها فى ذلك ، وعبرت عن سعادتى بالحديث إليها .. وإنصرفت ...
كنت متأكدا فى أعماق نفسى بأنها ستعيش بعض الوقت فى تبعات هذه الجلسة ، وستسترجع ما دار فيها قبل أن تقرر المضى قدما فى الطريق الذى أحست بأنه بارقة أمل نحو بعض الراحة النفسية التى تحتاج اليها .. وربما بالثقة التى بحثت عنها كثيرا من قبل تجاه الآخرين دون جدوى ، لأنها كانت تصاب بالاحباط والصدمة فى كل مرة كانت تحاول فيها ذلك ..
تصادف غيابى عن العمل فى اليوم التالى مباشرة ...
حاولت أن أبتعد بذاكرتى وفكرى عن العمل بما فيه من متاعب ،
أردت أن أستمتع براحتى فى هذا اليوم حتى يتجدد نشاطى لمواصلة العمل فى اليوم التالى .. إلا أن وجهها الجميل لم يفارق خيالى ولو للحظة .. وفكرت فى أثر غيابى هذا عليها ، وهل ستلحظ ذلك أم لا ؟ هل ستهتم ؟ هل ستسأل ؟ وكيف سيكون اللقاء التالى بعد هذا الغياب المفاجئ ؟ هل ستشعر بنفس الدرجة من الشوق واللهفة الى إلتقاء العيون ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ياله من يوم طويل .. تمر فيه الدقائق وكأنها ساعات .. وتمر فيه الساعات وكأنها سنين .. متى سيأتى الصباح التالى ؟؟

( 3 )

كان ليلا طويلا .. مليئا بالأفكار والهواجس والتوقعات والتساؤلات ..
كلما تقلبت فى الفراش .. نظرت الى ساعتى على ضوء المصباح الخافت المجاور لفراشى ، ثم أعاود المحاولة للنوم .. دون جدوى ، حتى تسلل ضوء الصباح الخافت من خلف ستائر غرفتى ، فسارعت بالقيام للاستعداد للذهاب الى عملى وفقا للروتين اليومى المعتاد ..
فى وقت قصير .. كنت فى السيارة التى تقلنى الى العمل كل صباح ، وقررت أن أتوجه الى مكتبى مباشرة ، حيث كانت واجهة المكتب الزجاجية تسمح لى برؤية القادمين صباحا من جهة المصعد أو السلم عبر البهو الخارجى الى مكاتب الادارة الأخرى .. وكانت فرصة أن أذهب الى مكتبى مبكرا لرؤيتها قبل أن تصل فى موعدها المعتاد ..
تخيلت نفسى وقد وصلت الى مكتبى وفتحت الجريدة الصباحية متظاهرا بتصفحها بينما عيناى مصلتتان على المصعد حتى أرى اللحظة الأولى لخروجها ، ورد فعلها عندما تمر أمام مكتبى ، وكيف ستكون نظراتها للوهلة الأولى .. كثير من الملاحظات التى يمكن أن استنتج منها الكثير ..
كنت غارقا فى تفكيرى وتصوراتى .. وأطلقت العنان لإستنتاجاتى المفائلة والمتشائمة .. ونتائج هذه الاستنتاجات مستقبلا ... مئات من التصورات المتناقضة .. فى دوامة من الشوق الى رؤياها .. بينما وقفت السيارة على باب العمل ، فقفزت منها مسرعا الى المصعد .. ومنه الى الطابق الثانى حيث كان مكتبى .. وسرت بسرعة وخفة الى مكتبى ، وفتحت باب المكتب ، وتسمرت فى مكانى من المفاجأة التى لم أتوقعها ..
كانت جالسة أمام مكتبى .. وعيناها على باب المكتب .. وبادرتنى بقولها فى رقة وعذوبة " صباح الخير " ..
أخذت نفسا عميقا .. ناظرا اليها ، وبعد لحظات إستجمعت فيها تركيزى ، وأجبت " صباح النور " ....
- ما جيتش ليه إمبارح ؟؟ ( بدت على ملامحها مشاعر الانشغال والقلق )
- كنت تعبان شوية . ( أجبتها وأنا أنظر الى عينيها الخضراوتان الصافيتان نظرة عميقة .. وكأننى إريد أن أغوص فيهما الى الأعماق الساحقة .. )
- سلامتك .. الادارة كانت مظلمة من غيرك .. حمدالله على السلامة ..
- الله يسلمك .. متشكر جدا ،،
هكذا كانت لحظات سريعة وجميلة .. حملت أجمل المعانى والأحاسيس الصادقة التى كان كل منا يحلم بها .. ويشتاق اليها بعد طول بحث وإنتظار ..
أحسست حينها أنها كانت عظيمة لأنها فتحت باب العاطفة على مصراعيه ، أزالت كافة الحواجز فى ثوان معدودة .. مهدت الطريق بيننا بكلمات بسيطة وقصيرة ومباشرة .. قربت فيما بيننا مسافات يقطعها الآخرون فى شهور .. إستطاعت ذلك بعقلها الراجح ، وثقة رائعة فى النفس .. أضافت الى جمالها مزيدا من الجمال .. نعم جمال العقل والصدق فى المشاعر والبساطة فى التعبير ..
عبرت لها عن سعادتى البالغة بإهمامها والسؤال عنى .. وأمسكت بالفرصة التى قدمتها لى على طبق من ذهب .. وسألتها :
- كيف تقضين وقت فراغك ؟
- فى ممارسة هواياتى بالمنزل ، أو زيارة بعض صديقاتى أو قريباتى من العائلة .. وأحيانا الذهاب الى النادى .
- النادى ؟ فى أى وقت تذهبين ؟ إننى أحرص على الذهاب الى هناك بصورة منتظمة لممارسة الرياضة .. ولم أراك من قبل !!
- أنا لا أذهب بإنتظام .. وعندما أذهب الى هناك .. أجلس فى الصالون لمطالعة بعض الكتب ، أو العزف على البيانو القابع فى أحد الأركان ..
- إذن أنت من هواة العزف على هذه الآلة الرائعة ؟
- حاجة بسيطة على قدى ، مش للدرجة اللى إنت فاكرها .
- بما أننى من محبى سماع الموسيقى ، لا سيما إذا كان العزف حياً .. هلى أستطيع أن أتطفل عليك عندما تذهبين الى هناك ، لأجلس فى محرابك ، وأستمع الى عزفك ؟
- ياريت .. بس ما تتريقش على ..
- موافق .. متى ؟
- يوم الأحد القادم ..............
( 4 )
أخذت أنظر الى ساعتى بين لحظة وأخرى ..
كنت جالساً فى حديقة النادى مساء اليوم الموعود .. وأخترت فى جلستى أن أكون مواجها لمدخل النادى حتى أراها عند حضورها .. وما أن حلت الساعة الثامنة مساء .. حتى رأيتها تعبر البوابة الرئيسية ، وقد ألقت تحية المساء الى موظف الأمن برقتها وإبتسامتها الخفيفة التى كانت تأثر بها الآخرين ..
كانت ترتدى رداء فضفاضا ذات لون كحلى ، جعل بشرتها البيضاء تبدو وكأنها تضيئ تحت الضوء الخافت الذى يسقط عليها من أعمدة الانارة القريبة من المدخل ، وإنساب شعرها الأصفر وكأنه سبائك من الذهب على وجهها اللؤلؤى الوضاء ، وتدلى من أذنيها قرط رقيق من حبات اللؤلؤ الذى أرتدت منه عقداً طوق عنقها الجميل ، وكان حذاؤها وحقيبتها بنفس لون فستانها الرائع ..
تهادت فى مشيتها على الممر المؤدى الى الحديقة بخطوات متزنة وواثقة .. تسير فى عز وكبرياء الأميرات .. وكان أنفها الدقيق مرتفعاً قليلاً ليعلن عن العظمة والرقى اللذان كانت تتحلى بهما .. وكان صوت دقات حذئها على رخام الأرضية كدقات منتظمة رقيقة تعلن عن قدوم أميرة الجمال ..
نهضت من جلستى مسرعا لإستقبالها على الممر ، مرحبا بها .. ناظراً إليها بعينين مبهورتين .. تكاد تلتهمها إلتهاما ، فقابلتنى بإبتسامتها العذبة من شفتين هما كحبتين من ثمرة الفراولة الناضجة ، أظهرتا من تحتهما صفين من اللؤلؤ الرقيق رصهما المولى بعناية بالغة الدقة ..
وبعد أن رحبت بها ، دعوتها لتناول فنجان من الشاى بالحديقة قبل أن ندخل معا الى صالون النادى ..
جاءت جلستنا تحت مصباح ذات لون أحمر ، فأضفى على سحرها سحراً آخر .. وأضاف الى الجلسة جواً من الرقة والرومانسية مهدت الحديث للاتجاه الذى كنت أتمناه .. وتناهى الى مسامعنا صوت من الموسيقى الهادئة التى كانت تنبعث من أجناب الحديقة ..
دارت بنظرها فى أرجاء الحديقة ، وكأنها تستعرض الجالسين على مسافات متباعدة شيئا ما .. وعندما وصلت عيناها إلى ، كنت جالسا فى صمت بينما أنظر إليها مشدوها بجمالها ، غير مصدق لوجودها معى على إنفراد .. وحدنا .. إلتقت عيوننا فى نظرة إستمرت ثوان معدودات .. هربت بعدها بعينيها الى الجانب الآخر من الحديقة ، وكأنها بذكائها أرادت أن تخفف من حرارة المشاعر التى أحاطت بنا ولكنها عادت للنظر الى متوقعة منى الحديث .. فوجدتنى مستمراً فى النظر إليها فى صمت عميق .. فبادرتنى بالسؤال :
- مالك ؟؟
- ..............
- ( فى دهشة ) .. خير ؟ فيه أيه ؟؟
- .............
إتجهت بنظرها الى الجانب الآخر لثوان وكأنها تفكر كيف تتصرف فى هذا الموقف ثم عادت تسألنى :
- إيه الحكاية ؟
- أرجوكى .. ممكن أحلم شوية ؟؟
- تحلم بايه ؟
- بالسعادة اللى طول عمرى أسمع عنها ..
- آه .. يظهر إنك نويت تغنى قبل ما أعزف ..
- إنت بدأت العزف فعلاً ..
- إزاى ؟؟
- كلماتك فى أذنى كأنها لحن جميل من ألحان الحب ..
- ممكن نتفق على حاجة ؟
- ممكن ..
- مش نأجل الكلام ده شوية .. لغاية ما نتكلم عن بعضنا الأول ؟؟
- مش قادر .. بس أنا عندى إقتراح ، إيه رأيك لو أرجأنا الحديث عن بعضنا الى الجلسة القادمة ..؟؟
- موافقة .. بس بشرط .
- أشرط ياجميل ..
- ندخل الصالون عشان ألعب على البيانو شوية ..
أرادت بذكائها أن تخفف من حدة الاندفاع العاطفى من جانبى .. وكأنها تشعر بأن حاجزاً ما بيننا ، لم يحن الوقت بعد للخوض فيه .. أو الحديث عنه ..
قمنا من جلستنا متوجهين الى الصالون .. ثم الى الركن الذى يضم آلة البيانو .. جلست ، ورفعت غطاء المفاتيح .. وأخذت تختبر النغمات ، ثم بدأت بالعزف بأصابعها الرقيقة التى كانت تقفز على مفاتيح البيانو بخفة ورشاقة محسوبة بدقة لتصدر نغمات رقيقة وعذبة مبهرة ..
كانت فى قمة الثقة وهى تعزف .. كانت تغوص بكل حواسها فى النغمات التى تعزفها ، كانت كمن يحلق فى سماء الفن ، وكنت جالسا بجوارها فى صمت وهدوء عجيب ، أحبس أنفاسى خوفا من إزعاجها أو إخراجها من الحالة الهائمة التى كانت عليها .. متمتعا بما عزفت ببعض ألحان الأخوين رحبانى ، وإختتمت عزفها بلحن كلمات الأغنية التى شدت بها الفنانة العظيمة فيروز :
أعطنى الناى وغنى ..
فالغنى سر الوجود ..
وأنين الناى يبقى ..
بعد أن يفنى الوجود ..
...................الخ
وما أن إنتهت من عزفها وأنا هائم فى حالم من الخيال والرومانسية .. حتى أفقت على صوت تصفيق ..
كنت أظن أننى أستمع إليها وحدى .. ولم ألحظ – من فرط إندماجى معها – أولائك الذين تسللوا حولنا بهدوء ليشاركوننى المتعة .. فكان تصفيقهم لها مثار فخر وإعتزاز من جانبى ، لأننى أحسست وكأننى قد إمتلك الدنيا وما فيها ..
وللعزف بقية ..................


( 5 )
كما تعودت .. إستلقيت على فراشى فى ضوء خافت ، يلفنى سكون الليل بعد أن عدت الى منزلى متأخراً فى تلك الليلة ، إسترجعت ما دار فى ذلك اللقاء التاريخى مستعرضا تفاصيل الأحداث منذ أن إلتقينا فى حديقة النادى وحتى إنصرفنا .. وقد إنتابنى بعض القلق والحيرة ، فقد أحسست بعدم التجاوب مع أبديت من مشاعر العاطفة بنفس القدر من الاندفاع ، بل أننى أحسست بنوع من الهروب الذى يخفى سراً دفينا وراء تلك العيون الصافية ، وربما حاجزاً هلامياً لا أستطيع أن أراه أو أتلمسه .. وما دفعنى للحيرة ، هو ما لمسته من تعارض بين هذه المشاعر ، وما بدا لى يوم رأيت رد فعلها على غيابى المفاجئ عن العمل ، وما لمسته من إهتمام وقلق من جانبها لا ينم إلا عن منزلة خاصة بالنسبة لى فى أعماقها ..
ترقبت حضورها الى العمل فى اليوم التالى .. فكانت كالعادة مهتمة بإلقاء تحية الصباح ، وتبادلنا كلمات الاطمئنان والمجاملة ، وإنصرف كل الى عمله كالمعتاد .. حتى جاءت الفرصة فى وقت لاحق من نفس اليوم ، لأمر عليها فى مكتبها وأسألها عن إحساسها بعد لقاء الأمس .. فأعربت عن سعادتها البالغة ، وأنها قضت وقتا جميلاً فعلاً ، وأنها لا تمانع من تكرار اللقاء لأنها لمست ما يبعث فى نفسها الثقة من جانبى ، لما لمسته فى شخصى من عقل وإتزان على حد تعبيرها ولكننا لم نتفق على موعد محدد لهذا اللقاء ، ولم أحاول أن أثقل عليها بهذا الطلب وتركت ذلك الى وقت لاحق ، وأن كنت قد ألمحت فى معرض الحديث الى مواعيد ذهابى الى النادى لممارسة الرياضة ...
كان يوم الخميس .. حيث يمثل عطلة أسبوعية مع يوم الجمعة بالنسبة لجهة عملنا .. وذهبت كعادتى مبكراً الى النادى .. فاستبدلت ملابسى وأرتديت بدلة التدريب ، ونزلت الى ملعب كرة القدم حيث بدأت تمارين الاحماء والعدو حول الملعب كالمعتاد .. وما إن مرت دقائق حتى فوجئت بها وقد إرتدت ملابسها الرياضية ، وجاءت لتعدو بجوارى ، وأبدت رغبتها فى إستكمال البرنامج الرياضى بصحبتى ، وبنفس الروتين الذى أتبعه .. حيث نزلنا الى حوض السباحة بعد الانتهاء من التمارين الرياضية وإستبدال ملابسنا ، فأكتشفت أيضا أنها سباحة ماهرة .. فكنا نسبح تارة ، ونتبادل أطراف الحديث تارة أخرى على سبيل الاستراحة .. الى أن إتفقنا على الاكتفاء بهذا القدر ، والخروج لاستبدال ملابسنا لتناول طعام الغداء بمطعم النادى ..
دلفنا الى صالة الطعام .. وإخترنا ركناً هادئا لتناول الغداء .. وحاولت أن أتطرق لبعض الأمور الشخصية والعاطفية .. إلا أنها طلبت تأجيل ذلك الى ما بعد الغداء عندما نجلس فى الحديقة لتناول الشاى ..
إنتقلنا بعد الغداء الى الحديقة نتناول الشاى ، وبادرت هى بالحديث ، فطلبت منى أن أتحدث عن نفسى .. فأجبتها بأن أصول البروتكول تفرض علينا الأخذ بمبدأ "السيدات أولاً " .. فوافقت ، ولكنها أبدت خوفها من شعورى بالملل من الاستماع على حديثها .. كما أكدت على أنها المرة الأولى التى تتحدث فيها الى أحد فى أمورها الخاصة ، موضحة أن مبعث ذلك هو ثقتها البالغة فى شخصى ، وأنها تشعر بأننى سأكون بالنسبة لها فى محل الصديق المخلص الأمين الذى كانت فى حاجة إليه قبل لقاؤنا ، لتتحدث إليه من آن لآخر عندما تشعر بالحاجة الى ذلك .. لا سيما وأنها متحفظة بطبعها مع الآخرين ، ولكنها كانت تحتاج لمن تفتح له قلبها ، لتفرغ ما قد يعتريها من شحنات نفسية تمثل عبئا عليها أحيانا ، وربما تطلب المشورة والنصيحة المخلصة أحيانا أخرى ..
رحبت من جانبى بذلك .. وطمأنتها الى أننى سأكون مستمعاً جيداً لحديثها دون ملل ، خاصة إذا كان الحديث سيخرج من بين هاتين الشفتين الرقيقتين التى أحب أن أتطلع إليهما .. فشكرتنى على المجاملة ، وبدأت الحديث ....
كانتا شقيقتان لشقيق واحد .. من أب كان يعمل أستاذا بأحد الجامعات الحكومية المرموقة .. ووالدتها من أصل تركى الجنسية .. وكانت هذه الأسرة تقيم فى أحد الأحياء الراقية بمدينة القاهرة .. وقد هاجر الشقيق الوحيد الى الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على الجنسية ، وأصبح دائم الاقامة هناك ..
تزوجت شقيقتها وإنتقلت الى منزلها الجديد لتكوين أسرة جديدة .. وأخذتها مسئوليات حياتها الجديدة .. وشغلتها دوامة المسئولية كالآخرين ..
تزوج والدها من أخرى بعد أن أصيبت والدتها بمظاهر وأمراض الشيخوخة ، وتركها والدها فى رعاية إبنتها الباقية والمقيمة معها وحيدتان .. يصارعان الحياة دون راع يهتم بهن ويحميهن من جور الزمان وقسوته ، وطمع الطامعين .. فكان إحساسها بالخوم وعدم الثقة فيمن يحيطون بها سببا لتحفظها فى التعامل مع الآخرين ، ومحاولة إخفاء المأسآة التى تعيشها ..
ظنوا أنها مغرورة .. ومتكبرة ، وصفوها بالكثير من الصفات التى لا تمت للحقيقة بصلة .. ولم يكونوا على دراية بالمأساة التى تعيشها المسكينة .. هكذا الحياة ، وهكذا الناس ، لا يحكمون إلا بظاهر الأمور .. ولا يعلم ببواطنها إلا الله سبحانه وتعالى ..
إستطاعت أن تنهى دراستها الجامعية .. وتخرجت من كلية الآداب – قسم اللغة الأنجليزية ، وسعت لنيل وظيفتها الحالية .. وتحملت المسئولية الكاملة لرعاية نفسها ووالدتها .. مع بعض المساعدة الرمزية من والدها الذى شغلته زوجته الجديدة .. الشابة .. الحسناء .......
كانت صديقتى على قدر كبير من النضج والعقل وقوة الشخصية التى نحتتها قسوة الزمن والظروف الاجتماعية القاسية .. فحددت لنفسها مواصفات دقيقة للرجل الذى يمكن أن يقترن بها ..
تقدم إليها بعض الزملاء فى العمل .. أختلفت درجاتهم الوظيفية ومواصفاتهم وشخصياتهم .. ولكنها لم تتعجل فى قبولهم .. لم تنطبق عليهم المواصفات التى تمنتها فى شريك حياتها ..
لعب القدر دوراً فى لقائها أخيراً بالشخص الذى رأت فيه فتى أحلامها .. طويل القامة ، جميل الملامح ، من أسرة مقتدرة فمنحته الامكانيات المادية المناسبة ، وكان يعمل مهندساً ، وكان فى تلك الفترة مكلفا بالقوات الجوية المصرية ، فكان كلما نزل فى أجازة ، إرتدى الزى العسكرى الجميل المبهر برتبة ضابط ، فكان على حق مبهراً وجذاباً لكل فتاة تتطلع الى شريك حياتها .. لأنه كان يبدو كفارساً نبيلاً من أبطال الأفلام الرومانسية ..
توافرت له مظاهر الجاذبية فضلاً عن الامكانيات المادية التى وفرت له سيارة جميلة ، وبعض الميراث من الأراضى والعقارات التى تدر عليه دخلاً طيبا .. فأكتملت كل مقومات الجاذبية ..
تقدم إليها طالبا إياها للزواج .. ياله من عرض جميل تتمناه أى فتاة .. الجمال والمنصب والمال .. فقبلت به .. وتم عقد القران فى حفل عائلى محدود ....

( 6 )
كان الخطيب يقضى ثلاثة أسابيع بمعسكره بالقوات المسلحة ، وأسبوعا خارج المعسكر كأجازة ، فكان يقضى هذا الأسبوع مع خطيبته فى نزهات متنوعة ، وقضاء أجمل الأوقات فى وسائل الترفيه المتنوعة كدور السينما والمسرح والحدائق العامة .. لم يكن يفرق بينهما إلا ساعات الليل ، الى أن يلتقيا فى اليوم التالى لاستكمال متعتهما معاً قبل إنتهاء الاجازة .. فكانت فترة الخطوبة مثالاً للاستمتاع الممتزج باللهفة والشوق الى اللقاء فى كل مرة .. كانت أجمل الذكريات بين نموذجين للحب والجمال ..
مضت أشهر قليلة على هذا النحو .. حتى كانا يجلسان ذات مساء فى أحد المطاعم الراقية على ضفاف النيل يتناولان العشاء فى جو حالم من الرومانسية .. تشكل الموسيقى الهادئة خلفية رائعة لهذه اللوحة البديعة ..
تحدث إليها عن وضعهما فى ذلك الوقت .. وكم كان يحتاج لأن يكون بجوارها ليرعاها هى ووالدتها كلما عاد من معسكره فى أجازته .. وأن الوقت الذى يمر هو بمثابة إضاعة للوقت .. وأن خروجهما معاً يعد أنانية منهما للإستمتاع بالحياة بعيداً عن والدتها التى يتمنى أن يكون إبنا بجوارها .. يهتم بهن ، ويسهر على راحتهن ، وقضى حاجتهن .. ويحميهن من جور الزمن والمجتمع ..
ولما كان إرتباطه بالقوات المسلحة لفترات طويلة ، فإن المنطق يملى نفسه بأن يقيم معها فى شقة الأسرة معها ووالدتها ، دون حاجة عاجلة لتأثيث شقة وإغلاقها .. وعدم الاستفادة منها ، على أن يكون هذا حلاً مؤقتا الى أن تنتهى فترة تجنيده بالقوات المسلحة ، لقيما معاً بصفة دائمة ، كما أنه لا يريد أن يضيع أياماً من عمرهما بين الفرقة والحرمان .. خاصة وأنهما متزوجان فعلاً أمام الله والمجتمع ... كان منطقا مقبولاً .
وعدته أن تناقش الأمر مع والدتها بإعتبارها صاحبة القرار فى هذا الموضوع ، وطمأنته بأنها ستحاول إقناعها بهذا الاقتراح ، وأن الأمر لن يكلفهما سوى غرفة واحدة فى شقة الوالدة ..
وافقت الأم .. خاصة أنها تريد لإبنتها السعادة والستر على حد تعبير المجتمع ، وجاءت موافقتها من منطلق ثقة إبنتها فى هذا الخطيب ، وأنها مادامت على قناعة بأن ذلك فى مصلحتهما فإنها لا تجد غضاضة فى ذلك ، وتمنت لهما السعادة.
إنتظرت خطيبها حتى الأجازة التالية .. وزفت إليه البشرى بموافقة الأم ، وإتفقا على الاكتفاء بحفل عائلى بسيط توفيراً للوقت ، وأن الحفل الكبير سيكون عند إنتقالهما الى شقتهما الدائمة مستقبلاً .. وقد كان ..
تم الزفاف ... وقضى الزوجان أجمل أوقات حياتهما .. سافرا معاً لأيام معدودات سمحت بها أجازته العسكرية الى أحد شواطئ مصر الجميلة ، فكانت مرحلة جديدة من حياتها ، ومضت الأيام والشهور ...
كان كلاهما يحسبان الأيام والساعات التى تجمعهما بلهفة وشوق بعد فراق .. وكانا يشعران بأن السعادة قد خلقت من أجلهما فقط .. فكانت الأيام السعيدة تمر مسرعة كأنها ثوان معدودة .. وكانا محل حسد ممن يراهما ، فقد كانا يؤلفان معاً قصة حب ، ويرسمان لوحة جمال وسعادة .. ونظمان شعراً فى الرومانسية لم ينظمه أحد من قبل ....
ولكن القدر أراد شيئاً آخر .. فقد أحست بعد حين بأن مشاعره نحوها بدأت تفتر شيئا فشيئاً .. وبدأت تشعر من جانبه ببعض التغير فى المعاملة التى أخذت طابعا من الجفاء فى كثير من الأحيان ، حتى أحست بأنه أصبح لا يسعى إليها إلا لينال متعة أو يشبع غريزة .. بل تطور الأمر الى محاول إستغلالها والإستفادة منها ، الى الحد الذى بدأ فيه يفتح حقيبتها فى غفلة منها ويعبث بمحتوياتها .. بل ليأخذ منها بعض المال .. فكان ذلك مثار دهشة وحيرة من جانبها ، وحاولت جاهدة أن تجد تفسيراً لذلك دون جدوى .. ولكنها حاولت ألا تترك الأمور لتصل بمشاعرها الى حد الصدمة ..
لم تيأس من المحاولة .. فأخذت تذكره بالأيام الجميلة ، والمشاعر النبيلة التى جمعتهما ، تلك الذكريات التى لا تنسى .. عسى أن تحرك عواطفه ومشاعره للإتجاه الصحيح ، وأن تحيى تلك المشاعر التى بدأت تختفى من حياتهما ، حاولت أن تحرك فيه نوازع وصفات الرجولة والشهامة التى كانت سببا فى قبولهما الزواج فى شقة والدتها .. وإتفقا على عدم الانجاب حتى ينتقلا الى سكنهما الدائم وإستقرارهما ..
عبثاً حاولت .... لقد ذهبت محاولتها أدراج الرياح ، ثم تطور الأمر الى الهجر ، فكان يقضى أجازته بعيداً عنها ، ولم تعد تراه .. وإنقطعت أخباره ، ولم يحاول الاتصال بها .. حتى شعرت بأن هناك شيئا ما غير عادى ، وأخذت تراوحها الظنون والأفكار ، ومع ذلك لم تكن تترك لنفسها العنان لتصل بالشك الى فقدان الأمل ، وحاولت أن تقنع نفسها بأن ما تعانيه إنما هو أمر عارض سرعان ما يزول ، وستعود المياه الى مجاريها كما يقولون ...
ذات مساء .. كانت تجلس مع والدتها أمام التلفاز .. عندما دق جرس الباب ، فقامت بفتح الباب ، فإذا بها وجها لوجه أمام أحد رجال الشرطة الذى بادرها بالسؤال :
- منزل السيدة / .............. ؟
- نعم ...
- حضرتك ؟
- نعم ...
- إتفضلى وقعى بالاستلام ..
- على ماذا ؟
- أنا آسف ياهانم .. ورقة الطلاق !!
لم تتمالك المسكينة شدة الصدمة .. وسقطت على الأرض مغشياً عليها ...

( 7 )
تلك كانت حالتها النفسية عندما إلتقيت بها ..
هكذا كان يراها الناس من الظاهر .. وهكذا رأيت أنا الحقيقة ، لم أتمكن من الدفاع عنها أمام الآخرين ، لأنها تملك هذا الحق وحدها ، وكنت ملتزما بالأمانة فى حفظ أسرارها ، تألمت بينى وبين نفسى ، وعشت صراعا داخليا بين رغبتى فى دفع الظلم عنها ، وعجزى عن ذلك لأننى إلتزمت بالعهد والوعد بحفظ أسرارها ، ولكن ذلك كان دافعا لى لأن أتعاطف معها ، وتولدت لدى رغبة صادقة فى إثبت لها بأن الدنيا مازالت بخير، وان أشد من أذرها لأعينها على إستمرار الحياة بأمل جديد ، يضمد جراحها، ويحميها من السقوط فى هاوية اليأس ، ودوامة الانهيار ... فتنتهى حياتها بالغرق فى محيط الأحزان بأمواجه العاتية ..
ربما أخطأت هى فى الاختيار عندما جعلت المظهر والمادة مقياساً لشريك حياتها ، ولكنها – وللأسف – هى التى دفعت الثمن غاليا ، هى وحدها دون غيرها ، هى التى عاشت الألم ، وعانت الجراح ..
رأيت كثيراً دموعها وهى تستمع الى بعض الأغانى العاطفية لعبد الحليم حافظ :
أنا الهوى هوايا .. أبنيلك قصر عالى .... الخ
أو لكوكب الشرق .. أم كلثوم عندما تشدو :
وعايزنا نرجع زى زمان .. قول للزمان إرجع يازمان ... الخ
وأيضاً :
إسأل روحك .. إسأل قلبك .. قبل ما تسأل إيه غيرنى ..
أنا غيرنى عذابى فى حبك ...... الخ
كانت الدموع تسقط كحبات اللؤلؤ من عينيها الجميلتين وهى تنظر الى مالانهاية ، فى صمت ، دون أن تتخلى عن البقية الباقية من كبريائها .. وكان قلبى يعتصر ألماً من أجلها .... يالقسوة القدر ..
حاولت أن أخفف عنها الألم ، وأن إعيد إليها الأمل ، وأن أبعث فيها القوة من جديد لتستكمل مسيرتها وحياتها بنظرة جديدة تحمل موعظة الدرس القاسى ، لتنطلق الى مستقبل أكثر حظاً ونجاحاً ، وتضمد جراحها وتنهض من جديد بعزيمة وشموخ ..
ما أن إنتهت من قصتها والدموع فى عينيها .. تناولت كأس عصير الليمون من على المنضدة ، وإرتشفت منه القليل .. ثم حاولت أن تتجاوز ما شعرت به من ألم الذكريات .. وإلتفتت إلى محاولة الابتسام .. قائلة :
- أنا آسفة .. يبدو أننى أزعجتك بحديثى ..
- إطلاقاً .. أنا على إستعداد للإستماع الى المزيد .. إذا كان هناك ما تريدين قوله ..
- أعتقد أن فى هذا الكفاية .. والآن جاء دورك فى الحديث ..
- أستأذنك فى تأجيل الحديث عن نفسى الى جلسة قادمة .. أما فى هذه الجلسة ، أريد أن أعقد معك إتفاقاً ....
- خيراً ؟؟
- أنا لا أحب أن أفرض نفسى عليك .. ولكننى فى الوقت الحالى ، وفى ظل الظروف التى تمرين بها .. أعرض عليك أن أكون صديقاً مخلصاً فى هذه المرحلة ، وربما إستطعت بقدراتى المتواضعة أن أخفف عنك ما تعانيه ، وعلى الأقل .. لا تكونى وحدك فى هذه المحنة .. ومن يعرف ؟ سنترك للقدر مستقبل هذه العلاقة وتطورها ..
( نظرت بعينيها الى الأفق البعيد .. وبدت وكأنها تفكر فى الأمر ) .. ثم قالت :
- أعتقد أن لقائى بك الآن .. وما تحدثت به إليك .. يعد موافقة مسبقة على ذلك ، وإذا كنت قد أخطأت إختيار الزوج ، فإننى على ثقة بأننى لن أخطئ فى إختيار الصديق ..
- أشعر بذلك منذ البداية .. لكننى أردت فقط أن إطمئن الى قرارك .. والآن دعينا نفكر فى الخطوات التالية التى يجب علينا أن نخطوها ..
عرضت عليها أن نرفع دعوى قضائية ضد هذا المخادع لنطالب بحقوقها الشرعية حتى لا يشعر أنها ضعيفة بظروفها الاجتماعية .. وحتى لا نتركه يهنأ بفعلته الدنيئة .. وعلى الجانب الآخر ، نستمر فى لقاءاتنا للتشاور والحديث ، وربما كان فى ذلك إحساسا بالمشاركة الوجدانية والأمان .. فضلا عن الراحة النفسية .. فوافقت على الفور .. وشرعنا فى تنفيذ ذلك ..
عاهدت نفسى أمام الله أن أفعل كل ما أستطيع لإخراجها من حالتها النفسية ، وأن أعوضها ما فقدته من السعادة وراحة البال .. وأن إعيد إليها ثقتها فى نفسها وفى الآخرين .. وأن أكون لها بدلاً من الأب المشغول بزوجته الشابة الحسناء .. والأخ الذى هاجر بعيداً .. ولتعلم أن الدنيا مازالت بخير .. وأن هناك ما يدعو الى التفاؤل بالمستقبل .. وأن ما حدث لا يمثل نهاية العالم .. بل هو مجرد صفحة من كتاب طويناها وإلقيناها جانبا ..
كان اللقاء التالى .. حيث تحدثت عن نفسى من منطلق الوضوح والتقارب ، وإزالة أى غموض من جانبى .. وعملاً بمفهوم الشفافية والصراحة التى إتفقنا عليها ..
كانت تكبرنى بخمس سنوات ..
وكنت أنا من أسرة متوسطة الحال ، وكنت قد إنتهيت لتوى من الحصول على شهادة الدراسة الثانوية التى حصلت بها على وظيفتى الحالية للمساعدة فى تربية أشقائى وإستكمال دراستهم بعد وفاة والدى .. فقد كنت أنا أكبرهم ، وأحسست بمسئوليتى عنهم .. وكنت قد أوشكت على إستكمال دراستى الجامعية .
هكذا كانت ظروفى الاجتماعية التى مثلت حائلاً دون التفكير فى الزواج فى ذلك الوقت قبل ان أنتهى من قيامى بواجبى الاجتماعى نحو أسرتى ، وأستكمل بناء مستقبلى العلمى والعملى ..
إنطلقنا معاً فى حياة جديدة ملؤها السعادة .. والأمل ..
لم نكن نفترق إلا ساعات الليل .. حيث نلتقى صباح اليوم التالى فى العمل لنضع خطة الترفيه المسائية .. أو اليوم التالى إذا كنا قبل عطلة نهاية الأسبوع ..
سجلنا أجمل اللحظات ، وأمتع الذكريات بين الحدائق ، والشواطئ ، ودور السينما والمسارح .. زرنا المتاحف والمعارض .. جلسنا فى المكتبات لمطالعة الكتب .. جلسنا على ضفاف النيل .. بل وسرنا فى النيل بقواربه .. مشينا على الأقدام مسافات ومسافات نتحدث فى كل شيئ دون أن نشعر بالوقت .. مارسنا الرياضة والسباحة .. وعدونا ، فسبقنا ظلنا .. كما شدت كوكب الشرق أم كلثوم ..
لم نترك رحلة جماعية أو ثنائية .. برية أو بحرية ، إلا وشاركنا فيها .. تجولنا فى المحافظات من الأسكندرية الى أسوان .. بين المدن والقرى ، والطبيعة الجميلة فى الريف المصرى ، تناولنا الطعام معاً بين الفاخر والبسيط ، جلسنا فى المطاعم الفاخرة ، وعلى الفرش البسيط على الرض فى الريف .. إستمتعنا بالعروض الموسيقية والغنائية .. شعرنا وكأننا عاشقين ينهلان من السعادة قبل أن يشاركنا فيها الآخرون .. ونريد أن نفوز بأكبر قسط منها ...
حاول كل منا أن يسعد الآخر بأقصى ما يستطيع ، كانت مشاعر طاهرة وراقية بين طرفين جمعهما العقل والإخلاص دون مصالح أو أهداف مغرضة .. وكلما مر بنا الوقت والزمن .. إقتربنا أكثر وأكثر .. حتى صرنا كجسد وعقل واحد .. فكان يكفينا النظر ليعرف كل منا ما يريد الآخر أن يقول .. كنا نتبادل أرق وأبلغ الكلمات وأصدق المشاعر .. بمجرد النظر ونحن صامتون .. لقد إرتقينا فوق تبادل المشاعر بالكلمات ...
كنا نشعر بأننا وحدنا فى هذا العالم ، ولو كنا بين مئات آخرين .. كانت الساعات تمر بيننا وكأنها ثوان معدودة .. كان الحديث همساً أو بالعيون .. مناجاة .. وغزل متبادل .. ما أسرع الوقت فى اللحظات السعيدة ..
شعرت فى وقت من الأوقات بينى وبين نفسى .. بأننى لن أجد من يناسبنى كحبيبة سواها ، كان كل منا يشعر بأنه فى حاجة ماسة للأخر كضرورة ملحة ، حتى يستطيع أن يعيش فى هذا العالم .. كان كل منا يكمل الآخر .. كنا كياناً واحداً لا يتجزأ ، ولا ينفصل .. ولكن الأقدار عودتنا بأنها لا تعطى للإنسان ما يتمناه فى كثير .. وربما فى إغلب الأحيان ..
كان هناك حاجزاً بيننا ..
دار بيننا حواراً ذات مرة .. كان حول التوافق بين الزوجين ، وتعرضنا للعلاقة التى جمعتنا ، فأشارت الى مدى ما تشعر به نحوى من الارتياح والثقة والأمان ، وما لعبته فى حياتها من دور لا يمكن أن تنساه .. بل أننى حفرت مكانا فى قلبها لا يمكن أن يزول بمرور الزمن ، ولكنها فى ذات الوقت تشعر بأن هناك بعض العقبات التى تحول دون أن يجمعنا الزواج .. ربما لأسباب لم تفصح عنها ، ولكننى فهمت أنها ربما تقصد فارق السن بيننا أو مسئولياتى الاجتماعية نحو أسرتى .. فآثرت ألا أخوض فى هذا الأمر حتى لا نفسد متعتنا بالحياة .. ولأن القدر سيقول كلمته فى النهاية حتماً ... ولن يكون أمامنا سوى الطاعة والاستجابة لمقدراته ..
ذات مساء .. كانت أمسية من أمسيات الصيف الجميلة ، كنا نجلس فى أحد الكافتريات المطلة على النيل ، فى جو حالم من الرومانسية .. بدت على وجهها بعض علامات الانشغال والتفكير .. وربما القلق ، فكانت تراوح بعينيها بينى وبين اللانهاية .. كانت تحاول الهرب بعينيها كلما نظرت إليها ، كانت تريد أن تقول شيئا ، لكنها كانت مترددة .. أو ربما كانت لا تعرف كيف تبدأ ، وكنت بطبعى لا أحب أن أسبب لها حرجا فى الحديث إلا فيما تريد هى ، خاصة فيما يعتريها من مشاعر .. لكننى كنت أرنو إليها من آن لآخر .. وكانت هى تحب هذا الأسلوب فى العامل ، فأترك لها المجال فى إختيار الوقت المناسب والكلمات التى تعبر بها عما تريد أن تقول .. بما يناسبها نفسياً ..
مرت دقائق .. ثم نظرت الى قائلة :
- هناك أمراً أريد أن أستشيرك فيه ..
- تفضلى ..
( لحظات من الصمت ناظرة الى الضفة المقابلة من النيل ، ثم بدأت الحديث) :

( 8 )
قابلته صدفة .. بعد أن مرت سنين لم يلتقيا خلالها منذ أن تخرجا من الجامعة ..
كان زميلاً لها منذ العام الدراسى الأول ، أسمر البشرة ، نحيف الجسد ، متوسط الطول ، من أسرة بسيطة تقطن فى حى شعبى ، ولكنه كان شديد الذكاء ، حاضر البديهة ، لبق الحديث ، واسع الأفق ، مثقف .. يتقن العلاقات العامة .. وكان فوق ذلك تفوقاً فى دراسته .. ومن الأوائل دائما ..
كانت تلمس منه إهتماما خاصا بها خلال مراحل الدراسة .. وكان يحاول دائما أن ينفرد بها كلما سمحت الظروف ليتحدث معها فى أحاديث شخصية ، وتكررت اللقاءات بينهما فيما يشبه الزمالة الحميمة ...
وفى العام الأخير من الدراسة الجامعية .. فاتحها برغبته فى التقدم لخطبتها ، على أن يتم الزواج بعد التخرج مباشرة ، ولكنها وفقا للمعايير التى وضعتها لفتى أحلامها آنذاك لم تكن تنطبق عليه .. فإعتذرت له بلباقة بأن ظروفها العائلية لا تسمح بذلك ، وفضلت أن تكون العلاقة بينهما فى إطار الزمالة والأخوة .. حتى أنهيا العام الدراسى .. وذهب كل فى طريق ، ولم تسمح الظروف بأن يلتقيا بعد ذللك .. أو يعلم أى منهما شيئا عن الآخر ....
وعندما إلتقيا صدفة .. سألها عن حالها وأخبارها ، فردت عليه بإجابات عامة ، ثم إستنتج من حديثها بأنها غير مرتبطة ، ولكنها مرت بتجربة خطوبة فاشلة .. فلم يتردد فى دعوتها لتناول قدحاً من الشاى ليستكملا الحديث .. فوافقت .
عرفت منه إلتحق بوزارة الخارجية فى السلك الدبلوماسى ، وأنه يعمل حاليا بمنصب " سكرتير ثالث " فى سفارتنا بنيجيريا .. وأنه لم يتزوج بعد .. كما أنه مازال يبحث عن الانسان المناسبة لتشاركه حياته ، وأنه يقضى أجازة سنوية يتمنى أن ينتهى فيها من هذا الموضوع ..
جدد عرضه عليها بالزواج ... والسفر معه الى مقر عمليه بالعاصمة النيجيرية "لاجوس" ووعد بالانتهاء من تجهيز منزل الزوجية هناك فيما لا يزيد عن شهرين من تاريخ عقد الزواج على الأكثر .. فطلبت منه مهلة للتفكير قبل الاجابة عليه برأيها فى هذا العرض .. فوافق على ما تريد ...
كانت هذه التطورات هى سبب حيرتها عندما إلتقينا ذلك المساء .. وطلبت منى إبداء الرأى فيما سمعت .. وكانت تشعر بأن هذا الأمر سيكون صعباً على نفسى من الناحية العاطفية ، فهى بحكم ذكائها .. كانت تعلم مشاعرى نحوها ... ولكنها كانت تعرف فى نفس الوقت بأننى ممن يفرقون بين عواطفهم وعقولهم عند الحاجة .. ومن هذا المنطلق ، طلبت منى الرأى والمشورة ..
وبعد دقائق من الصمت .. سألتنى أيضا عن مدى الصراحة التى تعرض بها الظروف التى مرت بها مع ذلك الوغد الذى تلاعب بها .. وسلب منها أعز ماتملك المرأة ، ولم تجد منه سوى الغدر ، وإفتقاد الضمير ...
كانت حائرة بين العرض الذى تلقته بالزواج ، وبين الاستمرار فى الدعوى القضائية التى كانت معروضة آنذاك أمام المحكمة ولم تصل فيها الى مرحلة الحكم النهائى بحقوقها ....
تناقشنا فى الأمر بالعقل والمنطق كما تعودنا .. وأحسست برغبتها فى قبول عرضه بالزواج ، خاصة أن سفرها خارج البلاد كان هدفاً لطى صفحة الماضى والبعد عن كل ماكان يذكرها بآلامها الماضية ..
إتفقنا على ضرورة الصراحة المطلقة بكل ما أحاط بها من ظروف فى زواجها الأول ، وأنه لم يكن مجرد خطوبة فاشلة كما أخبرته من قبل عندما إلتقيا صدفة .. حتى تقطع الطريق على أى إنسان يفكر فى أن ينسف حياتها الجديدة مع من تقترن به .. كما رأينا أنه طالما ستبدأ حياة جديدة مع إنسان محترم يحبها ويقدرها فإن الله بذلك عوضها عما فقدت .. فلا داع للاستمرار فى الدعوى القضائية .. وأنها يجب أن تكون على ثقة بأن الله سينتقم لها ممن ظلمها حتى لو تنازلت هى عن حقها ... ويجب أن تبدأ مرحلة جديدة من حياتها .....
إلتقيا مرة أخرى .. وصارحته بكل شيئ ، فبدت عليه علامات القلق والتردد ، فلقد كان عرضه عليها ظناً منه أن تجربتها لم تصل الى مرحلة الزواج الكامل .. بل كانت مجرد خطبة .. ولم يكن يتوقع ماسمع منها ، فطلب منها إمهاله ثلاثة أيام للتفكير فى الأمر فى ظل ما إستجد من معلومات أخبرته بها ... وأخبرها بأنه إذا قرر الموافقة على الارتباط .. فسوف يتصل بها قبل الإنتهاء من مهلة الأيام الثلاثة أما إذا لم يتصل بها .. فإن ذلك سيعنى سحب عرضه عليها ...
كنا نلتقى يوميا خلال المهلة .. نتدارس ونتوقع ، وننتظر ، وكنت آنذاك على وشك الإلتحاق بالقوات المسلحة لقضاء فترة التجنيد الاجبارى إستعدادا لحرب تحرير سيناء ( أكتوبر 1973 ) وكان متبقيا لى شهراً واحداً على ذلك ...

مرت الأيام الثلاثة .. وأتصل بها ، وتقابلا .. وإتفقا على كل شيئ ، وتلاقت مشاعر الحزن والفراق ، مع مشاعر الأمل والفرح ، وتغلبت مشاعر الإيثار على حب الذات .. ولم يكن هناك مكاناً للأنانية ، بل التمنى المخلص بمستقبل سعيد يعوض ما فات .. بعيون دامعة ، وقلب يتألم .. إفترقنا ، وذهب كل الى طريق .
إلتحقت أنا بالقوات المسلحة .. وبدأنا التدريب العسكرى ، مرحلة جديدة من حياتى كانت قاسية من كافة جوانبها ، عاطفياً .. ومعاناة مع الطبيعة القاسية بين الجبال فى أعماق الصحراء .. بدأتها ولم أكن أعرف ما يخبئه القدر ، ونحن مقدمون على حرب مع العدو الصهيونى ، ولا يعرف مصيرها إلا الله ...
ذهبت هى الى " لاجوس " .. طارت ، وطار قلبى معها .. ولم تترك لى سوى الذكريات ، ولكنها عاهدتنى قبل سفرها على إستمرار الاتصال والمراسلة ليطمئن كل منا على الآخر ، وإعترفت بأن مكانتى لديها لا يمكن أن تتزعزع أو تتأثر .. وأن صورتى لا يمكن أن تهتز مهما طال الزمن .. ومهما باعدت بيننا المسافات ، وتغيرت الظروف .. كما يقولون " اللى فى القلب .. حايفضل فى القلب " ...

( 9 )
مضت خمس سنوات ..
إنقطعت فيها الاتصالات ، ربما لأسباب خارجة عن إرادتنا ، وتخللت تلك الفترة حرب تحرير سيناء والتى حققنا فيها النصر بمشيئة الله ، وما أن تقرر خروجى من القوات المسلحة بعد إنقضاء فترة تجنيدى ، حتى عدت الى عملى ، وتوليت مسؤلياتى الجديدة ، وتغير موقع مكتبى .. ومرت الأيام ..
كنت جالسا بمكتبى ذات يوم ، وفى منتصف النهار .. فوجئت بها أمامى ، رأيتها على نفس الصورة التى رأيتها عليها أول مرة ، مازالت جميلة .. وأنيقة ، كانت كما تركتها منذ خمس سنوات ..
كم كانت مفاجأة رائعة أن نلتقى مرة أخرى بعد طول غياب ، وعلى غير موعد .. فكان هذا دليلاً على الوفاء بوعدها .. أن صداقتنا دائمة ولن تنتهى ، مهما تبدلت الأحوال ، وتغيرت الظروف .. كانت مشاعر صادقة حقاً ، تجلت بالوفاء والحب ..
جلسنا لحظات .. يحاول كل منا أن يشبع نظره بصورة الآخر بعد طول غياب ، حتى جاء عامل الكافيتريا ، وطلبت لها عصير الليمون كما تعودت منى عندما كنا نلتقى ، تبادلنا الأسئلة عن الأحوال ، وعن أحداث سنوات الفراق ، كان كل منا فى لهفة ليعرف أخبار الآخر ...
كانت قد قضت مع زوجها نحو عام فى " نيجيريا " ، إنتقلا بعدها الى القاهرة حيث مكثا هناك أربعة سنوات ، ترقى بعدها الزوج الى درجة سكرتير ثان ، وتم تعيينه فى سفارتنا بالفاتيكان بروما ، حيث كانا يستعدان للسفر عندما إلتقينا ، لذا كانت حريصة على أن ترانى قبل سفرها ...
أنجبت خلال تلك الفترة زهرتان جميلتان .. أخذتا عنها صفات الجمال والرقة ، وعاشت الأسرة الصغيرة فى سعادة ، وحاول زوجها أن يعوضها ما عانته آلآم قبل إقترانها به .. وكان مثالاً للرجل الدبلوماسى الذى يعرف كيف يتعامل مع الجنس اللطيف كما يسمونه ، وكان يحبها حباً صادقاً .. جماً .....
كنت فى ذلك الوقت قد بدأت أولى خطواتى للزواج .. وتبادلنا الأخبار ، وما طرأ على حياتنا من تطورات ، وكان كل منا يحرص على ألا يسيئ الى الآخر بأى تصرف أو كلمة .. حفاظا على الإستقرار الأسرى .. والسعادة المنشودة ..
إفترقنا مرة أخرى .. إفترقنا على أمل اللقاء الذى لم نعرف له موعداً .. سافرت هى الى " روما " حيث كان يتعين على زوجها أن يقضى هناك أربعة أعوام وفقا لنظام العمل الديبلوماسى .. فكنا نلتقى كل صيف خلال أجازتها الصيفية ، وحرصنا على أن يكون اللقاء فى إطار إجتماعى مع الزملاء والأصدقاء فى النادى ، وكان يشاركنا فى هذه اللقاءات أحيانا زوجها .. الذى أحب فينا مشاعر الأخوة ..
وما أن انتهت فترة عمل زوجها فى " روما " حتى تم نقله الى سفارتنا فى "نيوزيلاندا " حيث فترة عمل جديدة لمدة أربعة سنوات بعد ترقيته الى درجة "سكرتير أول " ...
ألحقت إبنتيها فى المدارس التى تقع فى أحد ضواحى العاصمة ، وكانت تقوم بتصويلهن ذهابا وإيابا يوميا بسيارتها الخاصة ، لتطمئن عليهن ... فقد كانتا تمثلان ثمرة حبها من الرجل الذى قدرها ، وعرف قيمتها ..
ذات صباح .. كان الشتاء بارداً .. غطت الثلوج الجبال المتصبة على جانبى الطريق الذى تمر منه الى مدرسة إبنتيها يوميا ، وبعد أن أوصلتهن الى المدرسة فى ذلك الصباح وودعتهن بالقبلات كالمعتاد .. إنصرفت عائدة الى منزلها ..
فى منتصف الطريق .. كان للقدر رأى آخر .. لقد كتب القدر تلك النهاية المأساوية التى غيبتها عن العالم فى ثوان معدودات .. إنهارت فوقها بعضا من الجبال الجليدية ، ودفنت بسيارتها تحت الجليد ، وعندما وصلت سلطات الانقاذ ، كان كل شيئ قد إنتهى .. ذهبت .. غابت الى الأبد .. أصبحت ذكرى لن تنسى ...
ذهبت ..
ذهبت دون وداع .. دون رجوع ..
تركتنا نسبح ملتاعين .. فى نهر دموع ..
باتت فى ظلمة قبر أبيض .. دون شموع ..
والأمل مازال يراودنى .. بيوم رجوع ..
هيهات ليوم قد ترجع بعد ذهاب مفجوع ..
لا نملك إلا أن نرضى بقضاء البارى ..
وبكل خشوع ...

==================================

الأحد، 8 فبراير 2009

القطار ....







القطار ................قصة قصيرة ..


الفصل الأول ..

كانت عقارب الساعة تقترب من الثامنة مساء ..
بينما كان هشام يرتب حقيبة صغيرة تحوى بعضا من أغراضه الخاصة التى تعود أن يستعملها في مثل هذه الرحلات التى تستغرق بضعة أيام لإنهاء أعماله في محافظة أخرى غير التى يقطن بها ،،،
أخذ يلقى نظرة أخيرة متعجلة على حقيبة أوراقه ، وهو ينظر إلى ساعته بين لحظة وأخرى بقلق شديد ، فقد أقترب موعد القطار الذي سيستقله في هذه الرحلة الطويلة وهو يحرص على عدم التخلف عن مواعيده ، وارتباطاته في الحياة ، هكذا تعود منذ الصغر .. وكانت من صفاته التى عرفها عنه الآخرين ، واكتسب ثقتهم بها .


وما أن انتهى من مراجعة أغراضه ، حتى حمل حقيبتيه وهرول مسرعا إلى الباب حيث استقل سيارة أجرة كانت تمر مصادفة أمام بيته ، وطلب من السائق الإسراع به إلى محطة القطار الرئيسية ..


كان كلما سافر في مثل هذه الرحلات ، انتابته مشاعر الملل من طول السفر ، وتلك الساعات التى تمر عليه بطيئة وهو جالس في القطار يطالع بعض الأوراق أو المجلات التى يصطحبها معه محاولا الخروج من حالة الملل التى تنتابه دون جدوى.. مرت بخاطره هذه المشاعر وهو يجلس على المقعد الخلفي من السيارة الأجرة التى كانت تتجه مسرعة إلى جهتها .. فتنهد بعمق .. آآآآآآآآه .. تانى ؟ هكذا بينه وبين نفسه ..


توقفت السيارة أمام المحطة بينما كان غارقا في أفكاره .. فنزل مسرعا بعد أن استدعى أحد الحمالين لمساعدته ، كانت خطواته مسرعة وهو ينظر إلى ساعاته بقلق وحيرة ..
حتى سأله الحمال : مالك يا بيه ؟ انت مستعجل ليه ؟
أجاب : القطر حا يفوتنى ..
قطر ايه يا بيه ؟
القطر اللى رايح محافظة ....
لسة بدرى يا بيه على القطر ، انت جاى قبل المعاد بساعة ..
ايه .. مش ممكن !!


فتوقف وهو يحملق في الحمال ، ولا يعرف ان كان جادا في قوله أم يسخر منه .. ودس يده في جيبه ، وأخرج تذكرة القطار ليتأكد من موعد القطار ، فكانت المفاجأة ، لقد كان الحمال على صواب .. ان القطار سيغادر المحطة في الساعة العاشرة ، بينما كان يعتقد أن موعده التاسعة .. وتساءل في داخله عن سبب هذا التخيل الخاطئ ، فلم يجد تفسيرا .. فأخذ يجفف عرقه قائلا للحمال :

خدنى على الزفتة الكافتيريا .. أمرى لله .. هى ليلة باين عليها مش فايتة ..
لا حول ولا قوة الا بالله .. هكذا أخذ يردد في همهمة ملتهبة ..


كانت الكافتيريا مزدحمة بالمسافرين ، وكانت هناك في أحد الأركان طاولة وحيدة خالية من الزبائن ، فتوجه إليها بلهفة ، وكأنه في سباق مع نفسه .. فقد كان يخشى أن يسبقه إليها أحد غيره ، وهو يكاد يشتعل غيظا مما هو فيه ، ناظرا إلى ساعته ببلادة شديدة هذه المرة .. يفكر .. كيف ستمر عليه الدقائق وكأنها ساعات ..


جاءه النادل سائلا : تحب تشرب ايه يا باشا ؟
فأجابه : ادينى يا ابنى فنجان قهوة ..
فسأله : قهوتك ايه يابيه ؟
فأجابه على مضض : سادة ..
ومد يده إلى جيبه ليخرج علبة سجائره .. وحينما شرع في إشعالها ، وقع بصره على فتاة تجلس وحيدة على طاولة في الركن المقابل ، وكانت تمسك بيدها كتاب صغير ، تطالع صفحاته واحدة تلو الأخرى ..

أشعل سيجارته .. وبدأ ينفس دخانها في الهواء محاولا التوجه بنظره إلى حركة المارة في ساحة المحطة ، حتى أحضر عامل الكافتيريا القهوة المطلوبة ، ووضعها أمامه .. فتناولها ليأخذ منها رشفه .. فاذا ببصره يقع مرة أخرى على تلك الفتاة التى تجلس على الجانب الآخر .. فوضع الفنجان .. وتوجه ببصره إلى الجانب الآخر من الكافتيريا محاولا تجنب النظر إليها .. فلماذا ينظر إليها وهى تجلس بعيدة عنه ، كما وأن لها وجهة تختلف عن وجهته بالتأكيد .. هكذا المنطق ..


ولكنه خالف المنطق ، وأخذ ينظر إليها متأملا .. يريد أن يعرف عنها أى شيئ ، والى أين تتجه .. ولم يجد لنفسه تفسيرا .. ولكنه حاول أن يقنع نفسه بأن المسألة مجرد قتل للوقت والملل ، ولكن يبدو أن القدر كان يخبئ له شيئا آخر ..
--------------------------------------------------------------

الفصل الثانى ...

حاول هشام أن يرفع عينه عنها أكثر من مرة ، ويلهى نفسه باشعال سيجارة من آن لآخر ولكنه لم يتمكن ، فاستسلم لمشاعره ، وأصبح لا يرفع بصره عنها رغم بعد المسافة بينهما ،


كانت الاضاءة خافتة في الركن الذى تجلس فيه .. ولكنها كانت كافية ليكون تصورا عن شخصيتها ، فهى من ذلك النوع الذى يهتم بمظهره وأناقته ، كانت ترتدى ألوانا متزنة ومتناغمة ، ووضعت فوق رأسها قبعة راقية وفقا لأحدث صيحات الموضة ، وطوقت عنقها بمنديل كبير من الحرير الأحمر الذى عكس لونه بفعل المصباح الوحيد الذى كان يعلوها على وجهها الأبيض ، فأعطاها لونا خمريا جميلا ..


كانت تجلس بكبرياء وكأنها أميرة ، تطالع ما بيدها من كتاب صغير ، وتمد يدها برشاقة من آن لآخر لتتناول كوبا من العصير على الطاولة لتحتسى بعضا منه ، فكانت من الرقة بحيث يظن من يلاحظها أنها تتناول الكوب لتقبله ، وليس لتشرب منه .. فأعجبه هذا التصور ، وأخذ يتأمل هذه الحركة متمنيا ألا ينتهى العصير من الكوب ، حتى تتاح له فرصة مراقبة لقاء شفتيها الرقيقتان مع الكوب في كل مرة .. لم تكن لتأبه لمن حولها ، وكأنها غارقة بكل حواسها فيما تقرأ ، ولم تنظر حولها أو إلى ساعتها ، وكأنها تعلم تماما متى تنصرف إلى وجهتها ، أو كأنها نسيت تماما ما تنتظره ..


صحيح .. أكانت تنتظر قطارا .. ؟ أم تنتظر شخصا .. ؟ ومن هو .. ؟


دخل هشام في دوامة من الأسئلة والتخيلات ، دون أن يستقر على اجابة ، ولكنه لم يرفع بصره عنها ، وتعجب لعدم اكتراثها بمن حولها ، رغم ما في المكان من زحام وضوضاء .. ففكر أن يلفت انتباهها ، ليرى عينيها ، فحاول السعال بصوت عال ، فلم ينجح .. أسقط منفضة السجائر على الأرض ، وكانت من المعدن الثقيل .. دون جدوى فزادت حيرته .. من هذه الانسانة .. ؟؟ ولماذا هى بهذا القدر من الثقة والاتزان .. ؟؟ وكاد حب الاستطلاع أن يقتله غيظا وحيرة .. ولكن ماذا يفعل .. ما باليد حيلة ..

وانت مالك بيها !! عاوز منها ايه !! ما تخليك في حالك !! أما انك متطفل وحشرى صحيح !! انت غاوى مشاكل يا بنى آدم .. ؟؟ هكذا حدث نفسه .. ولكنه لم يسمع ..


وفجأة .. استيقظ من أفكاره وانفعالاته على صوت الإذاعة الداخلية للمحطة ، تعلن عن قيام القطار رقم .... المتجه إلى .... بعد خمسة عشر دقيقة ..


لم يتحرك من مكانه ، ولم يلحظ على تلك الفتاة أى تأثر بما سمعت ، فأستدعى عامل الكافيتريا ، وسدد له الحساب ، وأخذ يتلكأ عل الفتاة تتحرك من مكانها .. ولكنها كانت غارقة في كتابها .. فأيقن أنها لا تنتظر نفس القطار .. فأسقط في يده ، وقام من مكانه بخطوات متثاقلة ، يشعر بالحسرة والندم .. وتوجه ليستقل القطار ، حتى جلس في مقعده رقم 20 B ..


بدأ يشعر بالملل من جديد ، بعد أن مرت عليه الوقت بالكافتيريا وكأنه ثوان معدودة .. وكان يتمنى أن ترافقه تلك الأميرة ، فقد كان يأمل أن تقتل الوقت والملل الذى كان دوما يشعر به .. ولكن لا مجال للتمنى .. فقد أوشك القطار على التحرك ، فاسترخى في مقعده .. ومدد قدماه إلى الأمام ، والقى برأسه على مسند المقعد .. وأغمض عينيه مستسلما .. وبدأ القطار يتحرك ..

لم يشعر هشام بشيء بعد ذلك .. ولكنه تنبه على أصابع رقيقة تلمس كتفه ، وصوت رقيق يكاد يكون همسا ، بل كهمس الموسيقى ، قائلا له ..

ممكن من فضلك أعدى علشان أقعد مكانى ؟؟ مش ده برضه كرسى رقم 21B ..؟؟
فقال لمحدثته : نعم هو ، وبدأ يعتدل في جلسته حتى تمر إلى الكرسى بجانبه .. وعند مرورها .. القى نظرة سريعة عليها وهو شبه نائم .. ولكنه فجأة .. كمن لدغه عقرب ، أخذ يفرك عينيه مشدوها مما رآه .. لا يصدق نفسه .. كانت هى !!!!!!!

--------------------------------------------------------

الفصل الثالث ...

انتاب هشام شعورا غريبا .. فبالرغم من أنه كان في العقد الخامس من عمره وكانت له علاقات متعددة بالجنس الآخر سواء من خلال عمله أو علاقاته الاجتماعية أو علاقاته العامة ، الا أنه أحس بدقات قلبه عالية .. وعندما كان يجلس بالكافتيريا ، وكانت بعيدة عنه ، كان يتمنى أن يقترب منها ويتحدث إليها ، أما الآن .. وقد أصبحت بجواره ، تجمدت الكلمات في حلقه ، وشعر بأن تفكيره قد تجمد ، وغرق في صمت من عميق ...


استقرت هى في مقعدها .. جلست برهة تنظر من النافذة بجوارها ، ومرت دقائق قبل أن تفتح حقيبة يدها وتخرج القصة التى كانت تقرأ فيها ، في هذه اللحظات لمح هشام غلاف القصة ، كانت قصة عالمية شهيرة " ذهب مع الريح " ... وكانت هى في صفحاتها الأخيرة ، ويبدوا أنها كانت تحرص على الانتهاء منها .. فوجد أن الوقت لا يسمح بمغامرة الحديث إليها ، فأحترم رغبتها ، وتركها تطالع القصة بشغف ملحوظ ...


كان يتظاهر بالنظر نحو النافذة المجاورة لها ، ولكنه كان يسترق النظر إلى ملامحها وتفاصيل وجهها وملابسها بعد أن أصبحت قريبة منه .. كان يريد أن يشبع عينيه منها عن قرب .. ولكن دون أن تلحظ هى ذلك ..


كان القطار ينهب الأرض نهبا .. ويشق طريقه بين ظلام الليل الدامس ، وما ان وصلت الساعة إلى الحادية عشر ، حتى خفض سائق القطار الأضواء إلى أدنى درجة ، وأصبحت مصابيح القراءة هى المتاحة لمن يحتاج إليها .. فأضاءت هى مصباح القراءة واستكملت انهاء القصة ، وفى خلال عشر دقائق كانت قد انتهت من الصفحة الأخيرة .. فتنهدت بعمق ، واسترخت بظهرها على ظهر المقعد ، وأرسلت نظرها إلى سقف القطار ، وكأنها مازالت تعيش في أحداث القصة ، أو تحاول أن تقييم نهاية القصة .. احتمالات كثيرة ولكنها في النهاية انتهت من القراءة .. فوجد الفرصة مناسبة للتحدث إليها :


- عفوا .. هل يضايقك أن أشعل سيجارة ؟
- اطلاقا .. يمكنك ذلك ، فقد اخترت مقاعد المدخنين ، لأننى أحب أن أدخن أحيانا ..
- اذن .. هل تسمحين بقبول أحد سجائرى المتواضعة .. ؟
- شكرا .. فأنا لا أحب التغيير ..
وأخرجت من حقيبتها علبة سجائرها ، فبادر هو باشعالها .. وكانت فرصة ليلقى نظرة عن قرب على رقة أصابعها ، ونضارة شفتاها ..
- شكرا .. قالت له بهمس .. فقد كان الجلوس من حولهما قد راحوا في سبات عميق .. ولم تشأ أن تزعجهم ..


كانت بادرة طيبة لتبادل الحديث ، أحس بسعادة بالغة ، وبأن الظروف كانت مهيأة لذلك ، فاختصرت الطريق عليه ، وقد كان يخشى الاحراج لو حاول محادثتها على غير رغبة منها ...

-------------------------------------------------------------


الفصل الرابع ....

أحس هشام بأنها أخذت انطباعا عنه بأنه انسان عاقل ، يشغل وظيفة هامة في شركته ، تبدوا عليه مظاهر الاحترام ، وكان يكبرها بعشرين عاما .. فكانت هذه العوامل مدعاة للتعامل معه دون خوف أو شك ، وفتحت معه جسرا للحوار ..

سألها : هل أتشرف بمعرفة اسمك ؟
أجابت : الهام ..
- هل تعملين بالقاهرة .. ؟
- لا .. فأنا من محافظة ......
- اذن كنت في زيارة خاصة .. ؟
- كنت في زيارة لاحدى قريباتى بمناسبة زواجها ، فهى صديقة عمرى ..
- هل تحضرين للقاهرة كثيرا ؟
- هذه هى المرة الثانية .. ولولا أنها انتظرتنى في المحطة عند حضورى ومغادرتى .. لكانت مشكلة بالنسبة لى ..
- ما رأيك في فنجان من الشاى بكافتيريا القطار ..؟
- لا مانع .. فكرة طيبة .


انتقلا إلى عربة الكافتيريا .. وجلسا على طاولة في نهاية العربة ، كانا يبحثان عن مكان هادئ ، فقد كانا يفضلان ذلك .. ويبدوا أن هذه الصفة كانت مشتركة بينهما .. فكانت أول نقطة توافقا حولها .. دون ترتيب مسبق ..


جاء عامل الكافتيريا ، فرحب بهما ، وسألهما عن طلبهما ، فطلب منه هشام فنجانين من الشاى مع بعض قطع الكيك الخفيف .. وأشعلا لفافتى تبغ .. واستكملا الحديث ..


أحس كل منهما أنه يريد أن يعرف كل شئ عن الآخر ، وكان كل منهما يحب أن يستمع إلى الآخر عندما يتحدث .. وشعر كل منهما بأنه يقترب من الآخر أكثر فأكثر .. واكتشفا أنهما ذو شخصيتان متطابقتان في معظم الصفات .. بل أن أنهما وصلا إلى درجة عالية من التفاهم ، وكان ذلك مدعاة للراحة النفسية لكلاهما .. فزادت لهفة كل منهما إلى حديث الآخر .. وبين متحدث ومستمع .. مرت الدقائق والساعات ..


كانت الصفات بينهما متطابقة ، والعقليات متقاربة ، وان كانت هناك بعض الاختلافات في وجهات النظر حول بعض الموضوعات ، وكان ذلك شيئا طبيعيا بحكم اختلاف السن والخبرة .. والظروف الاجتماعية ، ولكن لم يكن الاختلاف في الرأى يشكل قلقا بينهما ، فقد وصلا إلى مرحلة متقدمة من التفاهم والتكامل .. والانسجام ، والراحة النفسية ، حتى أنهما كان يتمنيان أن تدوم هذه الجلسة .. لولا أن القطار كان يسير مسرعا ، يطوى الأرض والوقت طيا ، على غير هواهما ، فحاول كل منهما أن يستمتع بما سمحت به الظروف من الراحة النفسية .. وتركا المستقبل للقدر .. ولم يفكرا فيما سيحدث بعد قليل من الوقت ..


- ما رأيك في الحب ؟
- مشاعر جميلة .. والحب أساس السعادة ..
- ألا يمكن أن يسبب الحب أحيانا بعضا من العذاب ؟
- ممكن ..
- ألا يمكن للانسان أن يندم على أنه أحب ؟
- أحيانا .. ولكن لماذا الندم ؟
- لأن الانسان يشعر بأن الحب قد جعله يتغاضى عن عيوب وأخطاء الحبيب ومن ثم يلتمس له العذر ، ولكن بعد أن يكتمل حبهما بالزواج ، ويخرجان إلى معترك الحياة وتجاربها ، يكتشف أحدهما أن الحب وحده لا يكفى للتغلب على أمواج الحياة العاتية .. وأنه يمكن أن يعانى أحيانا بسبب هذا الحب ...
- وهل تعتقد أن المحب يمكن أن يعترف بأن قراره في يوم من الأيام ، قد جانبه الصواب ، أو أنه لم يصدر حكما مجردا على الطرف الآخر ؟
- في معظم الأحيان ، لا يعترف الانسان بذلك ، فقد كان يقنع العالم كله بأنه على صواب في حبه ، بل ويحارب من أجل أن يخرج هذا الحب إلى النور ويثبت للعالم كله أنه على حق .. فيكون من الصعب عليه أن يعود ويعترف للناس بالحقيقة التى تظل دفينة في أعماق قلبه .. مدى الحياة .
- بالمناسبة .. هل أنت متزوج ؟
- نعم ، ولى من الأولاد ثلاثة .. وماذا عنك ؟
- أنا متزوجة منذ سنوات قليلة ، ولدى طفلان ..
- تزوجت عن حب ؟
- نعم .. وحاربت العالم من أجل حبى ..
- أتشعرين بأنك نجحت في الاختيار ؟ وأنك نجحت في حبك ؟
- نعم .. بكل تأكيد .. وان كانت هناك بعض الاختلافات في الطباع .. لكننى أحب زوجى ..
- ولكنك لا ترتدين خاتم الزواج .. !!
- لأننى أشعر أحيانا ببعض الحساسية في أصبعى ، فأخلعه وأضعه في حقيبتى لبعض الوقت .. ثم أرتديه مرة أخرى ..
- ولكن .. ألا يمكن أن يسبب ذلك سوء فهم لدى الآخرين ، فيتعاملون معك على أساس أنك غير مرتبطة ، فيسببون لك بعض الحرج ..؟؟
- أنا أعرف كيف أخبرهم أو أذكرهم بذلك في الوقت المناسب .. أجابت بثقة
- وهل من المعقول أن يتركك زوجك تقومين بهذه الرحلة وحدك ؟
- انه يثق بى ، وبعقلى وشخصيتى .. كما أنه رأى البقاء مع الأولاد ، كما أن عمله لم يسمح له بالسفر في هذه الرحلة السريعة .. وبالمناسبة ، سيكون في انتظارى مع الأولا في محطة الوصول ..


شعر هشام بأن هناك فجوة تتسع بينه وبين هذه الانسانة التى أحس نحوها بمشاعر لم يسبق أن شعر بها في حياته .. حتى أنه ظن لبعض الوقت أنه أحبها .. وأحب فيها الشخصية والعقل والصفات التى طالما كان يبحث عنها على مدى سنوات طوال .. ولكن كيف يسمح لنفسه بهذه المشاعر المحرمة ، وهو لم يتعود على الخيانة ، أو أن يدفع أحد إلى الخيانة .. فعاش لحظات صعبة من العذاب والصراع مع النفس .. ولكن قيمه وأخلاقه تغلبت في النهاية ، وأحس بأنه يجب أن يكون سببا في اسعاد الآخرين ، وليس لتعاستهم ، هكذا كانت مبادئه دوما .. ومن هنا كانت الفجوة النفسية التى أحس بها .. لم يكن له مكان هناك ..


- على فكرة أنا متشكرة خالص على الوقت الظريف ده ، وعلى فنجان الشاى والكيك ، وعلى الدردشة الجميلة ، ولن أنسى هذا اللقاء .. ايه رأيك .. نرجع أماكننا في القطار .. ؟
- كما تحبى ..

وافق ، وقد أحس بأن هناك من يخلع قلبه من صدره .. ولكنه استسلم لرغبتها ، وعادا إلى مقعديهما ، استلقى كل منهما على مقعده ، وكان الوقت قد أصبح متأخرا ، وأحس كل منهما برغبة في أن يغمض عينيه على آخر وأجمل لحظات عاشها منذ قليل .. ففعلا ..


مرت دقائق ، وفتح هشام عينيه .. فلاحظ أن محطة وصوله قد أقتربت ، فأستعد لمغادرة القطار ، وعندما نظر إلى جواره .. كانت هى في سبات عميق فقد كان هناك مزيدا من الوقت لكى تصل الى محطة وصولها ، فلم يستطع أن يوقظها ليسلم عليها قبل الرحيل .. فنظر إليها نظرة طويلة وهى نائمة بوجه برئ ، وكأنه أراد أن يشبع ناظريه من هذا الوجه الجميل .. ولكن القطار وقف في المحطة .. فغادر بهدوء ..


وقف على رصيف المحطة ينظر إلى القطار ، ولم يشعر بمن حوله .. حتى تضاءل القطار في عينيه ، وغاب في ظلام الليل .. وحمل معه أجمل ذكريات وأرق مشاعر ..
خرج من محطة القطار بخطوات متثاقلة .. واستقل أحد سيارات الأجرة .. وجلس في المقعد الخلفي ، سارحا فيما مضى .. فإذا به يسمع أغنية يحبها من مذياع السيارة ، وكانت تنساب بصوت خافت ..

يا حبيبي .. كل شيء بقضاء ..
ما بأيدينا خلقنا تعساء ..
ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم ..
بعدما عز اللقاء ..
فإذا أنكر خل خله ..
وتلاقينا لقاء الغرباء ..
ومضى كل الى غايته ..
لا تقل شئنا ..
فان الحظ شاء ....

فأخرج هشام منديله ، وأخذ يمسح دمعة انسابت على وجنتيه .. في هدوء حتى لا يلحظه سائق السيارة .. وابتعد القطار .. ..أنه