إبحَــــــــار .............
فى محيط الذكريات ........
( 1 )
إلتقيت بها صدفة ، رتبها القدر ..
جمعتنا ظروف العمل ..أحس كل منا بأن هناك شيئ يجذبه للآخر ، فكانت نظرات متبادلة بين الحين والآخر ، تريد أن تستكشف ذلك السر الكامن داخل كل منا ، لكن كل منا كان حريصا على المظهر الاجتماعى ، وألا يلفت نظر أحد ممن حولنا حتى لا تشوب هذه المشاعر الجميلة أية عقبات تحول دون نمائها ، لاسيما وأنها كانت كالنبتة الصغيرة التى تحتاج لمن يحوطها ويحميها من أية عوامل محيطة بها قد تعصف بها وهى ما زالت فى أمس الحاجة الى الرعاية .. حتى تنمو وتصبح شجرة كبيرة قوية تحمى نفسها .. تثمر أجمل المعانى .. وستظل بها الآخرين من الأحباب فى عالم الرومانسية الجميلة ..
كانت تبدو فى نظر الآخرين على أنها الانسانة المغرورة بجمالها ، فقد أنعم الله عليها بصفات الجمال الذى تتمناه كل أنثى .. كان الآخرون يشعرون بأنها تتعامل معهم من أعلى .. وربما كانوا يشعرون بكبريائها ، وترفعها ، بحكم نشأتها الراقية بأحد الأحياء المتميزة فى مدينة القاهرة .. وأسرتها التى تنتمى الى أصول تركية رفيعة ، ووالدها الذى كان يشغل وظيفة رفيعة كأستاذ فى أحدى الجامعات الحكومية الهامة ..
كانت نظرة ظالمة من الآخرين .. لأنهم لم يطلعوا على الحقيقة .. وكيف يعرفونها وقد إحتفظت بها خلف جدران عالية من الرسميات فى التعامل ، والتحفظ فى الحديث .. فلم يعاشرونها أو يقتربوا منها .. وكان لهم العذر .. فلم تكن تسمح لأحد بهذا الاقتراب .
كم أنت غريب أيها الزمن ...
تعطى للآخرين إنطباعا عن أناس .. بأنهم يملكون كل شيئ ، ينعمون بعذاب الآخرين ، يملكون القوة والجبروت ، لا يعرفون الرحمة ، مغرورون ومتكبرون ، لا يملكون العاطفة .. لا يعرفون الانسانية ،،،
وهم فى الحقيقة ضعفاء .. يعانون من ظلم البعض الآخر .. يحملون هموم تنوء الجبال بحملها ، لا ينامون الليل كما ينام منتقديهم ، يبحثون عن الحب والحنان ، يتسولون الرحمة فى صمت وصبر .. يتألمون من العذاب ، كمن يتقلب على جمار النار .. يشعرون بينهم وبين أنفسهم أنهم أوشكوا على الانهيار ، يحلمون بزراع قوية تشد من عضدهم ، وتحول دون سقوطهم ، لكنهم فى النهاية .. وبرغم من حولهم ، يشعرون بأنهم يقفون وحدهم فى صحراء قاسية ، لا يحيط بها سوى الضباع والذئاب التى تتحين الفرصة لينهشوا جسدها الرقيق ..
وما زلنا على حافة المحيط.. نستعد للابحار ...........
( 2 )
كانت زميلة لى فى العمل .. بالادارة المجاورة .. بنفس الطابق ..
كان كل منا يحرص على أن يظهر بأنه ألتقى بالآخر صدفة .. فيلقى عليه تحية الصباح ، وكان كل منا يسعى الى الآخر كلما تأخر عنه .. كم كانت تحية الصباح جميلة ، وممتعة وهامة ، ولكننا كنا نخفى حقيقتها كنوع من التحفظ تلافيا للحرج وحفاظا على الكرامة والمظهر العام ، بالرغم من إحساسنا بأهميتها وحلاوتها ، فقد كانت تبعث فينا نوع من السعادة والتفاؤل والأمل والنشاط كل صباح .. وصرنا نقترب من بعضنا رويدا رويدا ...
ذات صباح .. كنت صاحب المبادرة الأولى ، فأنتهزت فرصة إلقائها تحية الصباح ودعوتها لتناول قدحا من الشاى .. فترددت لحظات ، وكأنها تريد أن تجرى بعض الحسابات الشخصية على هذا الموقف المفاجئ .. ولكنها رحبت بالفكرة .. وجلسنا
تجاذبنا أطراف الحديث فى الأمور العامة .. ثم تطرقنا الى بعض أمور العمل .. وتحولنا شيئا فشيئا الى النواحى الشخصية ، كالهوايات والاهتمامات .. وقضاء وقت الفراغ .. ثم عبرت لها عن إعجابى بذوقها فى إختيار ملابسها بعناية .. وإمتدحت فيها عدم المبالغة فى إستخدام مساحيق التجميل ، وعقبت بأن ذلك أمر طبيعى .. لأنها لا تحتاج الى ذلك .. فقد منحها الله قدرا من الجمال الطبيعى الذى تتمناه كثيرات .. وأحسست بنظرتى فى أعماق عينيها ، بأنها تكاد تقفز سعادة بما سمعت ، وقد علت وجنتاها حمرة الخجل ، ومع ذلك حاولت أن تتماسك بالقناع المتحفظ ، وأكتفت بكلمة " مرسى " .. ولكننى كنت قد حصلت من المعانى والأحاسيس على أكثر من ذلك .. لقد حصلت على تصريح بالحديث الشخصى ..
أرادت أن تهرب من الموقف قبل أن تظهر عليها بعض المشاعر التى تريد أن تخفيها ولو مؤقتا .. وأن تحتفظ بتماسكها قبل أن ينهار ، فالأنثى هى الأنثى .. لاسيما عندما تسمع كلمات تحبها من رجل يحتل مانة خاصة بالنسبة لها .. فتلعب الكلمات دورا فى دغدغة العواطف .. ومداعبة القلب ، ولكن الصراع بين الأحاسيس والمظاهر ، كان يحسم لصالح المظاهر فى بادئ الأمر .. والى حين ،
إستأذنت فى الانصراف بحجة العمل .. ولم أشأ أن أثقل عليها ، فاستجبت لطلبها ، وطلبت منها ألا تتردد فى تكرار مثل هذه الجلسات كلما سمحت الظروف ، وكلما أحست برغبتها فى ذلك ، وعبرت عن سعادتى بالحديث إليها .. وإنصرفت ...
كنت متأكدا فى أعماق نفسى بأنها ستعيش بعض الوقت فى تبعات هذه الجلسة ، وستسترجع ما دار فيها قبل أن تقرر المضى قدما فى الطريق الذى أحست بأنه بارقة أمل نحو بعض الراحة النفسية التى تحتاج اليها .. وربما بالثقة التى بحثت عنها كثيرا من قبل تجاه الآخرين دون جدوى ، لأنها كانت تصاب بالاحباط والصدمة فى كل مرة كانت تحاول فيها ذلك ..
تصادف غيابى عن العمل فى اليوم التالى مباشرة ...
حاولت أن أبتعد بذاكرتى وفكرى عن العمل بما فيه من متاعب ،
أردت أن أستمتع براحتى فى هذا اليوم حتى يتجدد نشاطى لمواصلة العمل فى اليوم التالى .. إلا أن وجهها الجميل لم يفارق خيالى ولو للحظة .. وفكرت فى أثر غيابى هذا عليها ، وهل ستلحظ ذلك أم لا ؟ هل ستهتم ؟ هل ستسأل ؟ وكيف سيكون اللقاء التالى بعد هذا الغياب المفاجئ ؟ هل ستشعر بنفس الدرجة من الشوق واللهفة الى إلتقاء العيون ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ياله من يوم طويل .. تمر فيه الدقائق وكأنها ساعات .. وتمر فيه الساعات وكأنها سنين .. متى سيأتى الصباح التالى ؟؟
( 3 )
كان ليلا طويلا .. مليئا بالأفكار والهواجس والتوقعات والتساؤلات ..
كلما تقلبت فى الفراش .. نظرت الى ساعتى على ضوء المصباح الخافت المجاور لفراشى ، ثم أعاود المحاولة للنوم .. دون جدوى ، حتى تسلل ضوء الصباح الخافت من خلف ستائر غرفتى ، فسارعت بالقيام للاستعداد للذهاب الى عملى وفقا للروتين اليومى المعتاد ..
فى وقت قصير .. كنت فى السيارة التى تقلنى الى العمل كل صباح ، وقررت أن أتوجه الى مكتبى مباشرة ، حيث كانت واجهة المكتب الزجاجية تسمح لى برؤية القادمين صباحا من جهة المصعد أو السلم عبر البهو الخارجى الى مكاتب الادارة الأخرى .. وكانت فرصة أن أذهب الى مكتبى مبكرا لرؤيتها قبل أن تصل فى موعدها المعتاد ..
تخيلت نفسى وقد وصلت الى مكتبى وفتحت الجريدة الصباحية متظاهرا بتصفحها بينما عيناى مصلتتان على المصعد حتى أرى اللحظة الأولى لخروجها ، ورد فعلها عندما تمر أمام مكتبى ، وكيف ستكون نظراتها للوهلة الأولى .. كثير من الملاحظات التى يمكن أن استنتج منها الكثير ..
كنت غارقا فى تفكيرى وتصوراتى .. وأطلقت العنان لإستنتاجاتى المفائلة والمتشائمة .. ونتائج هذه الاستنتاجات مستقبلا ... مئات من التصورات المتناقضة .. فى دوامة من الشوق الى رؤياها .. بينما وقفت السيارة على باب العمل ، فقفزت منها مسرعا الى المصعد .. ومنه الى الطابق الثانى حيث كان مكتبى .. وسرت بسرعة وخفة الى مكتبى ، وفتحت باب المكتب ، وتسمرت فى مكانى من المفاجأة التى لم أتوقعها ..
كانت جالسة أمام مكتبى .. وعيناها على باب المكتب .. وبادرتنى بقولها فى رقة وعذوبة " صباح الخير " ..
أخذت نفسا عميقا .. ناظرا اليها ، وبعد لحظات إستجمعت فيها تركيزى ، وأجبت " صباح النور " ....
- ما جيتش ليه إمبارح ؟؟ ( بدت على ملامحها مشاعر الانشغال والقلق )
- كنت تعبان شوية . ( أجبتها وأنا أنظر الى عينيها الخضراوتان الصافيتان نظرة عميقة .. وكأننى إريد أن أغوص فيهما الى الأعماق الساحقة .. )
- سلامتك .. الادارة كانت مظلمة من غيرك .. حمدالله على السلامة ..
- الله يسلمك .. متشكر جدا ،،
هكذا كانت لحظات سريعة وجميلة .. حملت أجمل المعانى والأحاسيس الصادقة التى كان كل منا يحلم بها .. ويشتاق اليها بعد طول بحث وإنتظار ..
أحسست حينها أنها كانت عظيمة لأنها فتحت باب العاطفة على مصراعيه ، أزالت كافة الحواجز فى ثوان معدودة .. مهدت الطريق بيننا بكلمات بسيطة وقصيرة ومباشرة .. قربت فيما بيننا مسافات يقطعها الآخرون فى شهور .. إستطاعت ذلك بعقلها الراجح ، وثقة رائعة فى النفس .. أضافت الى جمالها مزيدا من الجمال .. نعم جمال العقل والصدق فى المشاعر والبساطة فى التعبير ..
عبرت لها عن سعادتى البالغة بإهمامها والسؤال عنى .. وأمسكت بالفرصة التى قدمتها لى على طبق من ذهب .. وسألتها :
- كيف تقضين وقت فراغك ؟
- فى ممارسة هواياتى بالمنزل ، أو زيارة بعض صديقاتى أو قريباتى من العائلة .. وأحيانا الذهاب الى النادى .
- النادى ؟ فى أى وقت تذهبين ؟ إننى أحرص على الذهاب الى هناك بصورة منتظمة لممارسة الرياضة .. ولم أراك من قبل !!
- أنا لا أذهب بإنتظام .. وعندما أذهب الى هناك .. أجلس فى الصالون لمطالعة بعض الكتب ، أو العزف على البيانو القابع فى أحد الأركان ..
- إذن أنت من هواة العزف على هذه الآلة الرائعة ؟
- حاجة بسيطة على قدى ، مش للدرجة اللى إنت فاكرها .
- بما أننى من محبى سماع الموسيقى ، لا سيما إذا كان العزف حياً .. هلى أستطيع أن أتطفل عليك عندما تذهبين الى هناك ، لأجلس فى محرابك ، وأستمع الى عزفك ؟
- ياريت .. بس ما تتريقش على ..
- موافق .. متى ؟
- يوم الأحد القادم ..............
( 4 )
أخذت أنظر الى ساعتى بين لحظة وأخرى ..
كنت جالساً فى حديقة النادى مساء اليوم الموعود .. وأخترت فى جلستى أن أكون مواجها لمدخل النادى حتى أراها عند حضورها .. وما أن حلت الساعة الثامنة مساء .. حتى رأيتها تعبر البوابة الرئيسية ، وقد ألقت تحية المساء الى موظف الأمن برقتها وإبتسامتها الخفيفة التى كانت تأثر بها الآخرين ..
كانت ترتدى رداء فضفاضا ذات لون كحلى ، جعل بشرتها البيضاء تبدو وكأنها تضيئ تحت الضوء الخافت الذى يسقط عليها من أعمدة الانارة القريبة من المدخل ، وإنساب شعرها الأصفر وكأنه سبائك من الذهب على وجهها اللؤلؤى الوضاء ، وتدلى من أذنيها قرط رقيق من حبات اللؤلؤ الذى أرتدت منه عقداً طوق عنقها الجميل ، وكان حذاؤها وحقيبتها بنفس لون فستانها الرائع ..
تهادت فى مشيتها على الممر المؤدى الى الحديقة بخطوات متزنة وواثقة .. تسير فى عز وكبرياء الأميرات .. وكان أنفها الدقيق مرتفعاً قليلاً ليعلن عن العظمة والرقى اللذان كانت تتحلى بهما .. وكان صوت دقات حذئها على رخام الأرضية كدقات منتظمة رقيقة تعلن عن قدوم أميرة الجمال ..
نهضت من جلستى مسرعا لإستقبالها على الممر ، مرحبا بها .. ناظراً إليها بعينين مبهورتين .. تكاد تلتهمها إلتهاما ، فقابلتنى بإبتسامتها العذبة من شفتين هما كحبتين من ثمرة الفراولة الناضجة ، أظهرتا من تحتهما صفين من اللؤلؤ الرقيق رصهما المولى بعناية بالغة الدقة ..
وبعد أن رحبت بها ، دعوتها لتناول فنجان من الشاى بالحديقة قبل أن ندخل معا الى صالون النادى ..
جاءت جلستنا تحت مصباح ذات لون أحمر ، فأضفى على سحرها سحراً آخر .. وأضاف الى الجلسة جواً من الرقة والرومانسية مهدت الحديث للاتجاه الذى كنت أتمناه .. وتناهى الى مسامعنا صوت من الموسيقى الهادئة التى كانت تنبعث من أجناب الحديقة ..
دارت بنظرها فى أرجاء الحديقة ، وكأنها تستعرض الجالسين على مسافات متباعدة شيئا ما .. وعندما وصلت عيناها إلى ، كنت جالسا فى صمت بينما أنظر إليها مشدوها بجمالها ، غير مصدق لوجودها معى على إنفراد .. وحدنا .. إلتقت عيوننا فى نظرة إستمرت ثوان معدودات .. هربت بعدها بعينيها الى الجانب الآخر من الحديقة ، وكأنها بذكائها أرادت أن تخفف من حرارة المشاعر التى أحاطت بنا ولكنها عادت للنظر الى متوقعة منى الحديث .. فوجدتنى مستمراً فى النظر إليها فى صمت عميق .. فبادرتنى بالسؤال :
- مالك ؟؟
- ..............
- ( فى دهشة ) .. خير ؟ فيه أيه ؟؟
- .............
إتجهت بنظرها الى الجانب الآخر لثوان وكأنها تفكر كيف تتصرف فى هذا الموقف ثم عادت تسألنى :
- إيه الحكاية ؟
- أرجوكى .. ممكن أحلم شوية ؟؟
- تحلم بايه ؟
- بالسعادة اللى طول عمرى أسمع عنها ..
- آه .. يظهر إنك نويت تغنى قبل ما أعزف ..
- إنت بدأت العزف فعلاً ..
- إزاى ؟؟
- كلماتك فى أذنى كأنها لحن جميل من ألحان الحب ..
- ممكن نتفق على حاجة ؟
- ممكن ..
- مش نأجل الكلام ده شوية .. لغاية ما نتكلم عن بعضنا الأول ؟؟
- مش قادر .. بس أنا عندى إقتراح ، إيه رأيك لو أرجأنا الحديث عن بعضنا الى الجلسة القادمة ..؟؟
- موافقة .. بس بشرط .
- أشرط ياجميل ..
- ندخل الصالون عشان ألعب على البيانو شوية ..
أرادت بذكائها أن تخفف من حدة الاندفاع العاطفى من جانبى .. وكأنها تشعر بأن حاجزاً ما بيننا ، لم يحن الوقت بعد للخوض فيه .. أو الحديث عنه ..
قمنا من جلستنا متوجهين الى الصالون .. ثم الى الركن الذى يضم آلة البيانو .. جلست ، ورفعت غطاء المفاتيح .. وأخذت تختبر النغمات ، ثم بدأت بالعزف بأصابعها الرقيقة التى كانت تقفز على مفاتيح البيانو بخفة ورشاقة محسوبة بدقة لتصدر نغمات رقيقة وعذبة مبهرة ..
كانت فى قمة الثقة وهى تعزف .. كانت تغوص بكل حواسها فى النغمات التى تعزفها ، كانت كمن يحلق فى سماء الفن ، وكنت جالسا بجوارها فى صمت وهدوء عجيب ، أحبس أنفاسى خوفا من إزعاجها أو إخراجها من الحالة الهائمة التى كانت عليها .. متمتعا بما عزفت ببعض ألحان الأخوين رحبانى ، وإختتمت عزفها بلحن كلمات الأغنية التى شدت بها الفنانة العظيمة فيروز :
أعطنى الناى وغنى ..
فالغنى سر الوجود ..
وأنين الناى يبقى ..
بعد أن يفنى الوجود ..
...................الخ
وما أن إنتهت من عزفها وأنا هائم فى حالم من الخيال والرومانسية .. حتى أفقت على صوت تصفيق ..
كنت أظن أننى أستمع إليها وحدى .. ولم ألحظ – من فرط إندماجى معها – أولائك الذين تسللوا حولنا بهدوء ليشاركوننى المتعة .. فكان تصفيقهم لها مثار فخر وإعتزاز من جانبى ، لأننى أحسست وكأننى قد إمتلك الدنيا وما فيها ..
وللعزف بقية ..................
( 5 )
كما تعودت .. إستلقيت على فراشى فى ضوء خافت ، يلفنى سكون الليل بعد أن عدت الى منزلى متأخراً فى تلك الليلة ، إسترجعت ما دار فى ذلك اللقاء التاريخى مستعرضا تفاصيل الأحداث منذ أن إلتقينا فى حديقة النادى وحتى إنصرفنا .. وقد إنتابنى بعض القلق والحيرة ، فقد أحسست بعدم التجاوب مع أبديت من مشاعر العاطفة بنفس القدر من الاندفاع ، بل أننى أحسست بنوع من الهروب الذى يخفى سراً دفينا وراء تلك العيون الصافية ، وربما حاجزاً هلامياً لا أستطيع أن أراه أو أتلمسه .. وما دفعنى للحيرة ، هو ما لمسته من تعارض بين هذه المشاعر ، وما بدا لى يوم رأيت رد فعلها على غيابى المفاجئ عن العمل ، وما لمسته من إهتمام وقلق من جانبها لا ينم إلا عن منزلة خاصة بالنسبة لى فى أعماقها ..
ترقبت حضورها الى العمل فى اليوم التالى .. فكانت كالعادة مهتمة بإلقاء تحية الصباح ، وتبادلنا كلمات الاطمئنان والمجاملة ، وإنصرف كل الى عمله كالمعتاد .. حتى جاءت الفرصة فى وقت لاحق من نفس اليوم ، لأمر عليها فى مكتبها وأسألها عن إحساسها بعد لقاء الأمس .. فأعربت عن سعادتها البالغة ، وأنها قضت وقتا جميلاً فعلاً ، وأنها لا تمانع من تكرار اللقاء لأنها لمست ما يبعث فى نفسها الثقة من جانبى ، لما لمسته فى شخصى من عقل وإتزان على حد تعبيرها ولكننا لم نتفق على موعد محدد لهذا اللقاء ، ولم أحاول أن أثقل عليها بهذا الطلب وتركت ذلك الى وقت لاحق ، وأن كنت قد ألمحت فى معرض الحديث الى مواعيد ذهابى الى النادى لممارسة الرياضة ...
كان يوم الخميس .. حيث يمثل عطلة أسبوعية مع يوم الجمعة بالنسبة لجهة عملنا .. وذهبت كعادتى مبكراً الى النادى .. فاستبدلت ملابسى وأرتديت بدلة التدريب ، ونزلت الى ملعب كرة القدم حيث بدأت تمارين الاحماء والعدو حول الملعب كالمعتاد .. وما إن مرت دقائق حتى فوجئت بها وقد إرتدت ملابسها الرياضية ، وجاءت لتعدو بجوارى ، وأبدت رغبتها فى إستكمال البرنامج الرياضى بصحبتى ، وبنفس الروتين الذى أتبعه .. حيث نزلنا الى حوض السباحة بعد الانتهاء من التمارين الرياضية وإستبدال ملابسنا ، فأكتشفت أيضا أنها سباحة ماهرة .. فكنا نسبح تارة ، ونتبادل أطراف الحديث تارة أخرى على سبيل الاستراحة .. الى أن إتفقنا على الاكتفاء بهذا القدر ، والخروج لاستبدال ملابسنا لتناول طعام الغداء بمطعم النادى ..
دلفنا الى صالة الطعام .. وإخترنا ركناً هادئا لتناول الغداء .. وحاولت أن أتطرق لبعض الأمور الشخصية والعاطفية .. إلا أنها طلبت تأجيل ذلك الى ما بعد الغداء عندما نجلس فى الحديقة لتناول الشاى ..
إنتقلنا بعد الغداء الى الحديقة نتناول الشاى ، وبادرت هى بالحديث ، فطلبت منى أن أتحدث عن نفسى .. فأجبتها بأن أصول البروتكول تفرض علينا الأخذ بمبدأ "السيدات أولاً " .. فوافقت ، ولكنها أبدت خوفها من شعورى بالملل من الاستماع على حديثها .. كما أكدت على أنها المرة الأولى التى تتحدث فيها الى أحد فى أمورها الخاصة ، موضحة أن مبعث ذلك هو ثقتها البالغة فى شخصى ، وأنها تشعر بأننى سأكون بالنسبة لها فى محل الصديق المخلص الأمين الذى كانت فى حاجة إليه قبل لقاؤنا ، لتتحدث إليه من آن لآخر عندما تشعر بالحاجة الى ذلك .. لا سيما وأنها متحفظة بطبعها مع الآخرين ، ولكنها كانت تحتاج لمن تفتح له قلبها ، لتفرغ ما قد يعتريها من شحنات نفسية تمثل عبئا عليها أحيانا ، وربما تطلب المشورة والنصيحة المخلصة أحيانا أخرى ..
رحبت من جانبى بذلك .. وطمأنتها الى أننى سأكون مستمعاً جيداً لحديثها دون ملل ، خاصة إذا كان الحديث سيخرج من بين هاتين الشفتين الرقيقتين التى أحب أن أتطلع إليهما .. فشكرتنى على المجاملة ، وبدأت الحديث ....
كانتا شقيقتان لشقيق واحد .. من أب كان يعمل أستاذا بأحد الجامعات الحكومية المرموقة .. ووالدتها من أصل تركى الجنسية .. وكانت هذه الأسرة تقيم فى أحد الأحياء الراقية بمدينة القاهرة .. وقد هاجر الشقيق الوحيد الى الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على الجنسية ، وأصبح دائم الاقامة هناك ..
تزوجت شقيقتها وإنتقلت الى منزلها الجديد لتكوين أسرة جديدة .. وأخذتها مسئوليات حياتها الجديدة .. وشغلتها دوامة المسئولية كالآخرين ..
تزوج والدها من أخرى بعد أن أصيبت والدتها بمظاهر وأمراض الشيخوخة ، وتركها والدها فى رعاية إبنتها الباقية والمقيمة معها وحيدتان .. يصارعان الحياة دون راع يهتم بهن ويحميهن من جور الزمان وقسوته ، وطمع الطامعين .. فكان إحساسها بالخوم وعدم الثقة فيمن يحيطون بها سببا لتحفظها فى التعامل مع الآخرين ، ومحاولة إخفاء المأسآة التى تعيشها ..
ظنوا أنها مغرورة .. ومتكبرة ، وصفوها بالكثير من الصفات التى لا تمت للحقيقة بصلة .. ولم يكونوا على دراية بالمأساة التى تعيشها المسكينة .. هكذا الحياة ، وهكذا الناس ، لا يحكمون إلا بظاهر الأمور .. ولا يعلم ببواطنها إلا الله سبحانه وتعالى ..
إستطاعت أن تنهى دراستها الجامعية .. وتخرجت من كلية الآداب – قسم اللغة الأنجليزية ، وسعت لنيل وظيفتها الحالية .. وتحملت المسئولية الكاملة لرعاية نفسها ووالدتها .. مع بعض المساعدة الرمزية من والدها الذى شغلته زوجته الجديدة .. الشابة .. الحسناء .......
كانت صديقتى على قدر كبير من النضج والعقل وقوة الشخصية التى نحتتها قسوة الزمن والظروف الاجتماعية القاسية .. فحددت لنفسها مواصفات دقيقة للرجل الذى يمكن أن يقترن بها ..
تقدم إليها بعض الزملاء فى العمل .. أختلفت درجاتهم الوظيفية ومواصفاتهم وشخصياتهم .. ولكنها لم تتعجل فى قبولهم .. لم تنطبق عليهم المواصفات التى تمنتها فى شريك حياتها ..
لعب القدر دوراً فى لقائها أخيراً بالشخص الذى رأت فيه فتى أحلامها .. طويل القامة ، جميل الملامح ، من أسرة مقتدرة فمنحته الامكانيات المادية المناسبة ، وكان يعمل مهندساً ، وكان فى تلك الفترة مكلفا بالقوات الجوية المصرية ، فكان كلما نزل فى أجازة ، إرتدى الزى العسكرى الجميل المبهر برتبة ضابط ، فكان على حق مبهراً وجذاباً لكل فتاة تتطلع الى شريك حياتها .. لأنه كان يبدو كفارساً نبيلاً من أبطال الأفلام الرومانسية ..
توافرت له مظاهر الجاذبية فضلاً عن الامكانيات المادية التى وفرت له سيارة جميلة ، وبعض الميراث من الأراضى والعقارات التى تدر عليه دخلاً طيبا .. فأكتملت كل مقومات الجاذبية ..
تقدم إليها طالبا إياها للزواج .. ياله من عرض جميل تتمناه أى فتاة .. الجمال والمنصب والمال .. فقبلت به .. وتم عقد القران فى حفل عائلى محدود ....
( 6 )
كان الخطيب يقضى ثلاثة أسابيع بمعسكره بالقوات المسلحة ، وأسبوعا خارج المعسكر كأجازة ، فكان يقضى هذا الأسبوع مع خطيبته فى نزهات متنوعة ، وقضاء أجمل الأوقات فى وسائل الترفيه المتنوعة كدور السينما والمسرح والحدائق العامة .. لم يكن يفرق بينهما إلا ساعات الليل ، الى أن يلتقيا فى اليوم التالى لاستكمال متعتهما معاً قبل إنتهاء الاجازة .. فكانت فترة الخطوبة مثالاً للاستمتاع الممتزج باللهفة والشوق الى اللقاء فى كل مرة .. كانت أجمل الذكريات بين نموذجين للحب والجمال ..
مضت أشهر قليلة على هذا النحو .. حتى كانا يجلسان ذات مساء فى أحد المطاعم الراقية على ضفاف النيل يتناولان العشاء فى جو حالم من الرومانسية .. تشكل الموسيقى الهادئة خلفية رائعة لهذه اللوحة البديعة ..
تحدث إليها عن وضعهما فى ذلك الوقت .. وكم كان يحتاج لأن يكون بجوارها ليرعاها هى ووالدتها كلما عاد من معسكره فى أجازته .. وأن الوقت الذى يمر هو بمثابة إضاعة للوقت .. وأن خروجهما معاً يعد أنانية منهما للإستمتاع بالحياة بعيداً عن والدتها التى يتمنى أن يكون إبنا بجوارها .. يهتم بهن ، ويسهر على راحتهن ، وقضى حاجتهن .. ويحميهن من جور الزمن والمجتمع ..
ولما كان إرتباطه بالقوات المسلحة لفترات طويلة ، فإن المنطق يملى نفسه بأن يقيم معها فى شقة الأسرة معها ووالدتها ، دون حاجة عاجلة لتأثيث شقة وإغلاقها .. وعدم الاستفادة منها ، على أن يكون هذا حلاً مؤقتا الى أن تنتهى فترة تجنيده بالقوات المسلحة ، لقيما معاً بصفة دائمة ، كما أنه لا يريد أن يضيع أياماً من عمرهما بين الفرقة والحرمان .. خاصة وأنهما متزوجان فعلاً أمام الله والمجتمع ... كان منطقا مقبولاً .
وعدته أن تناقش الأمر مع والدتها بإعتبارها صاحبة القرار فى هذا الموضوع ، وطمأنته بأنها ستحاول إقناعها بهذا الاقتراح ، وأن الأمر لن يكلفهما سوى غرفة واحدة فى شقة الوالدة ..
وافقت الأم .. خاصة أنها تريد لإبنتها السعادة والستر على حد تعبير المجتمع ، وجاءت موافقتها من منطلق ثقة إبنتها فى هذا الخطيب ، وأنها مادامت على قناعة بأن ذلك فى مصلحتهما فإنها لا تجد غضاضة فى ذلك ، وتمنت لهما السعادة.
إنتظرت خطيبها حتى الأجازة التالية .. وزفت إليه البشرى بموافقة الأم ، وإتفقا على الاكتفاء بحفل عائلى بسيط توفيراً للوقت ، وأن الحفل الكبير سيكون عند إنتقالهما الى شقتهما الدائمة مستقبلاً .. وقد كان ..
تم الزفاف ... وقضى الزوجان أجمل أوقات حياتهما .. سافرا معاً لأيام معدودات سمحت بها أجازته العسكرية الى أحد شواطئ مصر الجميلة ، فكانت مرحلة جديدة من حياتها ، ومضت الأيام والشهور ...
كان كلاهما يحسبان الأيام والساعات التى تجمعهما بلهفة وشوق بعد فراق .. وكانا يشعران بأن السعادة قد خلقت من أجلهما فقط .. فكانت الأيام السعيدة تمر مسرعة كأنها ثوان معدودة .. وكانا محل حسد ممن يراهما ، فقد كانا يؤلفان معاً قصة حب ، ويرسمان لوحة جمال وسعادة .. ونظمان شعراً فى الرومانسية لم ينظمه أحد من قبل ....
ولكن القدر أراد شيئاً آخر .. فقد أحست بعد حين بأن مشاعره نحوها بدأت تفتر شيئا فشيئاً .. وبدأت تشعر من جانبه ببعض التغير فى المعاملة التى أخذت طابعا من الجفاء فى كثير من الأحيان ، حتى أحست بأنه أصبح لا يسعى إليها إلا لينال متعة أو يشبع غريزة .. بل تطور الأمر الى محاول إستغلالها والإستفادة منها ، الى الحد الذى بدأ فيه يفتح حقيبتها فى غفلة منها ويعبث بمحتوياتها .. بل ليأخذ منها بعض المال .. فكان ذلك مثار دهشة وحيرة من جانبها ، وحاولت جاهدة أن تجد تفسيراً لذلك دون جدوى .. ولكنها حاولت ألا تترك الأمور لتصل بمشاعرها الى حد الصدمة ..
لم تيأس من المحاولة .. فأخذت تذكره بالأيام الجميلة ، والمشاعر النبيلة التى جمعتهما ، تلك الذكريات التى لا تنسى .. عسى أن تحرك عواطفه ومشاعره للإتجاه الصحيح ، وأن تحيى تلك المشاعر التى بدأت تختفى من حياتهما ، حاولت أن تحرك فيه نوازع وصفات الرجولة والشهامة التى كانت سببا فى قبولهما الزواج فى شقة والدتها .. وإتفقا على عدم الانجاب حتى ينتقلا الى سكنهما الدائم وإستقرارهما ..
عبثاً حاولت .... لقد ذهبت محاولتها أدراج الرياح ، ثم تطور الأمر الى الهجر ، فكان يقضى أجازته بعيداً عنها ، ولم تعد تراه .. وإنقطعت أخباره ، ولم يحاول الاتصال بها .. حتى شعرت بأن هناك شيئا ما غير عادى ، وأخذت تراوحها الظنون والأفكار ، ومع ذلك لم تكن تترك لنفسها العنان لتصل بالشك الى فقدان الأمل ، وحاولت أن تقنع نفسها بأن ما تعانيه إنما هو أمر عارض سرعان ما يزول ، وستعود المياه الى مجاريها كما يقولون ...
ذات مساء .. كانت تجلس مع والدتها أمام التلفاز .. عندما دق جرس الباب ، فقامت بفتح الباب ، فإذا بها وجها لوجه أمام أحد رجال الشرطة الذى بادرها بالسؤال :
- منزل السيدة / .............. ؟
- نعم ...
- حضرتك ؟
- نعم ...
- إتفضلى وقعى بالاستلام ..
- على ماذا ؟
- أنا آسف ياهانم .. ورقة الطلاق !!
لم تتمالك المسكينة شدة الصدمة .. وسقطت على الأرض مغشياً عليها ...
( 7 )
تلك كانت حالتها النفسية عندما إلتقيت بها ..
هكذا كان يراها الناس من الظاهر .. وهكذا رأيت أنا الحقيقة ، لم أتمكن من الدفاع عنها أمام الآخرين ، لأنها تملك هذا الحق وحدها ، وكنت ملتزما بالأمانة فى حفظ أسرارها ، تألمت بينى وبين نفسى ، وعشت صراعا داخليا بين رغبتى فى دفع الظلم عنها ، وعجزى عن ذلك لأننى إلتزمت بالعهد والوعد بحفظ أسرارها ، ولكن ذلك كان دافعا لى لأن أتعاطف معها ، وتولدت لدى رغبة صادقة فى إثبت لها بأن الدنيا مازالت بخير، وان أشد من أذرها لأعينها على إستمرار الحياة بأمل جديد ، يضمد جراحها، ويحميها من السقوط فى هاوية اليأس ، ودوامة الانهيار ... فتنتهى حياتها بالغرق فى محيط الأحزان بأمواجه العاتية ..
ربما أخطأت هى فى الاختيار عندما جعلت المظهر والمادة مقياساً لشريك حياتها ، ولكنها – وللأسف – هى التى دفعت الثمن غاليا ، هى وحدها دون غيرها ، هى التى عاشت الألم ، وعانت الجراح ..
رأيت كثيراً دموعها وهى تستمع الى بعض الأغانى العاطفية لعبد الحليم حافظ :
أنا الهوى هوايا .. أبنيلك قصر عالى .... الخ
أو لكوكب الشرق .. أم كلثوم عندما تشدو :
وعايزنا نرجع زى زمان .. قول للزمان إرجع يازمان ... الخ
وأيضاً :
إسأل روحك .. إسأل قلبك .. قبل ما تسأل إيه غيرنى ..
أنا غيرنى عذابى فى حبك ...... الخ
كانت الدموع تسقط كحبات اللؤلؤ من عينيها الجميلتين وهى تنظر الى مالانهاية ، فى صمت ، دون أن تتخلى عن البقية الباقية من كبريائها .. وكان قلبى يعتصر ألماً من أجلها .... يالقسوة القدر ..
حاولت أن أخفف عنها الألم ، وأن إعيد إليها الأمل ، وأن أبعث فيها القوة من جديد لتستكمل مسيرتها وحياتها بنظرة جديدة تحمل موعظة الدرس القاسى ، لتنطلق الى مستقبل أكثر حظاً ونجاحاً ، وتضمد جراحها وتنهض من جديد بعزيمة وشموخ ..
ما أن إنتهت من قصتها والدموع فى عينيها .. تناولت كأس عصير الليمون من على المنضدة ، وإرتشفت منه القليل .. ثم حاولت أن تتجاوز ما شعرت به من ألم الذكريات .. وإلتفتت إلى محاولة الابتسام .. قائلة :
- أنا آسفة .. يبدو أننى أزعجتك بحديثى ..
- إطلاقاً .. أنا على إستعداد للإستماع الى المزيد .. إذا كان هناك ما تريدين قوله ..
- أعتقد أن فى هذا الكفاية .. والآن جاء دورك فى الحديث ..
- أستأذنك فى تأجيل الحديث عن نفسى الى جلسة قادمة .. أما فى هذه الجلسة ، أريد أن أعقد معك إتفاقاً ....
- خيراً ؟؟
- أنا لا أحب أن أفرض نفسى عليك .. ولكننى فى الوقت الحالى ، وفى ظل الظروف التى تمرين بها .. أعرض عليك أن أكون صديقاً مخلصاً فى هذه المرحلة ، وربما إستطعت بقدراتى المتواضعة أن أخفف عنك ما تعانيه ، وعلى الأقل .. لا تكونى وحدك فى هذه المحنة .. ومن يعرف ؟ سنترك للقدر مستقبل هذه العلاقة وتطورها ..
( نظرت بعينيها الى الأفق البعيد .. وبدت وكأنها تفكر فى الأمر ) .. ثم قالت :
- أعتقد أن لقائى بك الآن .. وما تحدثت به إليك .. يعد موافقة مسبقة على ذلك ، وإذا كنت قد أخطأت إختيار الزوج ، فإننى على ثقة بأننى لن أخطئ فى إختيار الصديق ..
- أشعر بذلك منذ البداية .. لكننى أردت فقط أن إطمئن الى قرارك .. والآن دعينا نفكر فى الخطوات التالية التى يجب علينا أن نخطوها ..
عرضت عليها أن نرفع دعوى قضائية ضد هذا المخادع لنطالب بحقوقها الشرعية حتى لا يشعر أنها ضعيفة بظروفها الاجتماعية .. وحتى لا نتركه يهنأ بفعلته الدنيئة .. وعلى الجانب الآخر ، نستمر فى لقاءاتنا للتشاور والحديث ، وربما كان فى ذلك إحساسا بالمشاركة الوجدانية والأمان .. فضلا عن الراحة النفسية .. فوافقت على الفور .. وشرعنا فى تنفيذ ذلك ..
عاهدت نفسى أمام الله أن أفعل كل ما أستطيع لإخراجها من حالتها النفسية ، وأن أعوضها ما فقدته من السعادة وراحة البال .. وأن إعيد إليها ثقتها فى نفسها وفى الآخرين .. وأن أكون لها بدلاً من الأب المشغول بزوجته الشابة الحسناء .. والأخ الذى هاجر بعيداً .. ولتعلم أن الدنيا مازالت بخير .. وأن هناك ما يدعو الى التفاؤل بالمستقبل .. وأن ما حدث لا يمثل نهاية العالم .. بل هو مجرد صفحة من كتاب طويناها وإلقيناها جانبا ..
كان اللقاء التالى .. حيث تحدثت عن نفسى من منطلق الوضوح والتقارب ، وإزالة أى غموض من جانبى .. وعملاً بمفهوم الشفافية والصراحة التى إتفقنا عليها ..
كانت تكبرنى بخمس سنوات ..
وكنت أنا من أسرة متوسطة الحال ، وكنت قد إنتهيت لتوى من الحصول على شهادة الدراسة الثانوية التى حصلت بها على وظيفتى الحالية للمساعدة فى تربية أشقائى وإستكمال دراستهم بعد وفاة والدى .. فقد كنت أنا أكبرهم ، وأحسست بمسئوليتى عنهم .. وكنت قد أوشكت على إستكمال دراستى الجامعية .
هكذا كانت ظروفى الاجتماعية التى مثلت حائلاً دون التفكير فى الزواج فى ذلك الوقت قبل ان أنتهى من قيامى بواجبى الاجتماعى نحو أسرتى ، وأستكمل بناء مستقبلى العلمى والعملى ..
إنطلقنا معاً فى حياة جديدة ملؤها السعادة .. والأمل ..
لم نكن نفترق إلا ساعات الليل .. حيث نلتقى صباح اليوم التالى فى العمل لنضع خطة الترفيه المسائية .. أو اليوم التالى إذا كنا قبل عطلة نهاية الأسبوع ..
سجلنا أجمل اللحظات ، وأمتع الذكريات بين الحدائق ، والشواطئ ، ودور السينما والمسارح .. زرنا المتاحف والمعارض .. جلسنا فى المكتبات لمطالعة الكتب .. جلسنا على ضفاف النيل .. بل وسرنا فى النيل بقواربه .. مشينا على الأقدام مسافات ومسافات نتحدث فى كل شيئ دون أن نشعر بالوقت .. مارسنا الرياضة والسباحة .. وعدونا ، فسبقنا ظلنا .. كما شدت كوكب الشرق أم كلثوم ..
لم نترك رحلة جماعية أو ثنائية .. برية أو بحرية ، إلا وشاركنا فيها .. تجولنا فى المحافظات من الأسكندرية الى أسوان .. بين المدن والقرى ، والطبيعة الجميلة فى الريف المصرى ، تناولنا الطعام معاً بين الفاخر والبسيط ، جلسنا فى المطاعم الفاخرة ، وعلى الفرش البسيط على الرض فى الريف .. إستمتعنا بالعروض الموسيقية والغنائية .. شعرنا وكأننا عاشقين ينهلان من السعادة قبل أن يشاركنا فيها الآخرون .. ونريد أن نفوز بأكبر قسط منها ...
حاول كل منا أن يسعد الآخر بأقصى ما يستطيع ، كانت مشاعر طاهرة وراقية بين طرفين جمعهما العقل والإخلاص دون مصالح أو أهداف مغرضة .. وكلما مر بنا الوقت والزمن .. إقتربنا أكثر وأكثر .. حتى صرنا كجسد وعقل واحد .. فكان يكفينا النظر ليعرف كل منا ما يريد الآخر أن يقول .. كنا نتبادل أرق وأبلغ الكلمات وأصدق المشاعر .. بمجرد النظر ونحن صامتون .. لقد إرتقينا فوق تبادل المشاعر بالكلمات ...
كنا نشعر بأننا وحدنا فى هذا العالم ، ولو كنا بين مئات آخرين .. كانت الساعات تمر بيننا وكأنها ثوان معدودة .. كان الحديث همساً أو بالعيون .. مناجاة .. وغزل متبادل .. ما أسرع الوقت فى اللحظات السعيدة ..
شعرت فى وقت من الأوقات بينى وبين نفسى .. بأننى لن أجد من يناسبنى كحبيبة سواها ، كان كل منا يشعر بأنه فى حاجة ماسة للأخر كضرورة ملحة ، حتى يستطيع أن يعيش فى هذا العالم .. كان كل منا يكمل الآخر .. كنا كياناً واحداً لا يتجزأ ، ولا ينفصل .. ولكن الأقدار عودتنا بأنها لا تعطى للإنسان ما يتمناه فى كثير .. وربما فى إغلب الأحيان ..
كان هناك حاجزاً بيننا ..
دار بيننا حواراً ذات مرة .. كان حول التوافق بين الزوجين ، وتعرضنا للعلاقة التى جمعتنا ، فأشارت الى مدى ما تشعر به نحوى من الارتياح والثقة والأمان ، وما لعبته فى حياتها من دور لا يمكن أن تنساه .. بل أننى حفرت مكانا فى قلبها لا يمكن أن يزول بمرور الزمن ، ولكنها فى ذات الوقت تشعر بأن هناك بعض العقبات التى تحول دون أن يجمعنا الزواج .. ربما لأسباب لم تفصح عنها ، ولكننى فهمت أنها ربما تقصد فارق السن بيننا أو مسئولياتى الاجتماعية نحو أسرتى .. فآثرت ألا أخوض فى هذا الأمر حتى لا نفسد متعتنا بالحياة .. ولأن القدر سيقول كلمته فى النهاية حتماً ... ولن يكون أمامنا سوى الطاعة والاستجابة لمقدراته ..
ذات مساء .. كانت أمسية من أمسيات الصيف الجميلة ، كنا نجلس فى أحد الكافتريات المطلة على النيل ، فى جو حالم من الرومانسية .. بدت على وجهها بعض علامات الانشغال والتفكير .. وربما القلق ، فكانت تراوح بعينيها بينى وبين اللانهاية .. كانت تحاول الهرب بعينيها كلما نظرت إليها ، كانت تريد أن تقول شيئا ، لكنها كانت مترددة .. أو ربما كانت لا تعرف كيف تبدأ ، وكنت بطبعى لا أحب أن أسبب لها حرجا فى الحديث إلا فيما تريد هى ، خاصة فيما يعتريها من مشاعر .. لكننى كنت أرنو إليها من آن لآخر .. وكانت هى تحب هذا الأسلوب فى العامل ، فأترك لها المجال فى إختيار الوقت المناسب والكلمات التى تعبر بها عما تريد أن تقول .. بما يناسبها نفسياً ..
مرت دقائق .. ثم نظرت الى قائلة :
- هناك أمراً أريد أن أستشيرك فيه ..
- تفضلى ..
( لحظات من الصمت ناظرة الى الضفة المقابلة من النيل ، ثم بدأت الحديث) :
( 8 )
قابلته صدفة .. بعد أن مرت سنين لم يلتقيا خلالها منذ أن تخرجا من الجامعة ..
كان زميلاً لها منذ العام الدراسى الأول ، أسمر البشرة ، نحيف الجسد ، متوسط الطول ، من أسرة بسيطة تقطن فى حى شعبى ، ولكنه كان شديد الذكاء ، حاضر البديهة ، لبق الحديث ، واسع الأفق ، مثقف .. يتقن العلاقات العامة .. وكان فوق ذلك تفوقاً فى دراسته .. ومن الأوائل دائما ..
كانت تلمس منه إهتماما خاصا بها خلال مراحل الدراسة .. وكان يحاول دائما أن ينفرد بها كلما سمحت الظروف ليتحدث معها فى أحاديث شخصية ، وتكررت اللقاءات بينهما فيما يشبه الزمالة الحميمة ...
وفى العام الأخير من الدراسة الجامعية .. فاتحها برغبته فى التقدم لخطبتها ، على أن يتم الزواج بعد التخرج مباشرة ، ولكنها وفقا للمعايير التى وضعتها لفتى أحلامها آنذاك لم تكن تنطبق عليه .. فإعتذرت له بلباقة بأن ظروفها العائلية لا تسمح بذلك ، وفضلت أن تكون العلاقة بينهما فى إطار الزمالة والأخوة .. حتى أنهيا العام الدراسى .. وذهب كل فى طريق ، ولم تسمح الظروف بأن يلتقيا بعد ذللك .. أو يعلم أى منهما شيئا عن الآخر ....
وعندما إلتقيا صدفة .. سألها عن حالها وأخبارها ، فردت عليه بإجابات عامة ، ثم إستنتج من حديثها بأنها غير مرتبطة ، ولكنها مرت بتجربة خطوبة فاشلة .. فلم يتردد فى دعوتها لتناول قدحاً من الشاى ليستكملا الحديث .. فوافقت .
عرفت منه إلتحق بوزارة الخارجية فى السلك الدبلوماسى ، وأنه يعمل حاليا بمنصب " سكرتير ثالث " فى سفارتنا بنيجيريا .. وأنه لم يتزوج بعد .. كما أنه مازال يبحث عن الانسان المناسبة لتشاركه حياته ، وأنه يقضى أجازة سنوية يتمنى أن ينتهى فيها من هذا الموضوع ..
جدد عرضه عليها بالزواج ... والسفر معه الى مقر عمليه بالعاصمة النيجيرية "لاجوس" ووعد بالانتهاء من تجهيز منزل الزوجية هناك فيما لا يزيد عن شهرين من تاريخ عقد الزواج على الأكثر .. فطلبت منه مهلة للتفكير قبل الاجابة عليه برأيها فى هذا العرض .. فوافق على ما تريد ...
كانت هذه التطورات هى سبب حيرتها عندما إلتقينا ذلك المساء .. وطلبت منى إبداء الرأى فيما سمعت .. وكانت تشعر بأن هذا الأمر سيكون صعباً على نفسى من الناحية العاطفية ، فهى بحكم ذكائها .. كانت تعلم مشاعرى نحوها ... ولكنها كانت تعرف فى نفس الوقت بأننى ممن يفرقون بين عواطفهم وعقولهم عند الحاجة .. ومن هذا المنطلق ، طلبت منى الرأى والمشورة ..
وبعد دقائق من الصمت .. سألتنى أيضا عن مدى الصراحة التى تعرض بها الظروف التى مرت بها مع ذلك الوغد الذى تلاعب بها .. وسلب منها أعز ماتملك المرأة ، ولم تجد منه سوى الغدر ، وإفتقاد الضمير ...
كانت حائرة بين العرض الذى تلقته بالزواج ، وبين الاستمرار فى الدعوى القضائية التى كانت معروضة آنذاك أمام المحكمة ولم تصل فيها الى مرحلة الحكم النهائى بحقوقها ....
تناقشنا فى الأمر بالعقل والمنطق كما تعودنا .. وأحسست برغبتها فى قبول عرضه بالزواج ، خاصة أن سفرها خارج البلاد كان هدفاً لطى صفحة الماضى والبعد عن كل ماكان يذكرها بآلامها الماضية ..
إتفقنا على ضرورة الصراحة المطلقة بكل ما أحاط بها من ظروف فى زواجها الأول ، وأنه لم يكن مجرد خطوبة فاشلة كما أخبرته من قبل عندما إلتقيا صدفة .. حتى تقطع الطريق على أى إنسان يفكر فى أن ينسف حياتها الجديدة مع من تقترن به .. كما رأينا أنه طالما ستبدأ حياة جديدة مع إنسان محترم يحبها ويقدرها فإن الله بذلك عوضها عما فقدت .. فلا داع للاستمرار فى الدعوى القضائية .. وأنها يجب أن تكون على ثقة بأن الله سينتقم لها ممن ظلمها حتى لو تنازلت هى عن حقها ... ويجب أن تبدأ مرحلة جديدة من حياتها .....
إلتقيا مرة أخرى .. وصارحته بكل شيئ ، فبدت عليه علامات القلق والتردد ، فلقد كان عرضه عليها ظناً منه أن تجربتها لم تصل الى مرحلة الزواج الكامل .. بل كانت مجرد خطبة .. ولم يكن يتوقع ماسمع منها ، فطلب منها إمهاله ثلاثة أيام للتفكير فى الأمر فى ظل ما إستجد من معلومات أخبرته بها ... وأخبرها بأنه إذا قرر الموافقة على الارتباط .. فسوف يتصل بها قبل الإنتهاء من مهلة الأيام الثلاثة أما إذا لم يتصل بها .. فإن ذلك سيعنى سحب عرضه عليها ...
كنا نلتقى يوميا خلال المهلة .. نتدارس ونتوقع ، وننتظر ، وكنت آنذاك على وشك الإلتحاق بالقوات المسلحة لقضاء فترة التجنيد الاجبارى إستعدادا لحرب تحرير سيناء ( أكتوبر 1973 ) وكان متبقيا لى شهراً واحداً على ذلك ...
مرت الأيام الثلاثة .. وأتصل بها ، وتقابلا .. وإتفقا على كل شيئ ، وتلاقت مشاعر الحزن والفراق ، مع مشاعر الأمل والفرح ، وتغلبت مشاعر الإيثار على حب الذات .. ولم يكن هناك مكاناً للأنانية ، بل التمنى المخلص بمستقبل سعيد يعوض ما فات .. بعيون دامعة ، وقلب يتألم .. إفترقنا ، وذهب كل الى طريق .
إلتحقت أنا بالقوات المسلحة .. وبدأنا التدريب العسكرى ، مرحلة جديدة من حياتى كانت قاسية من كافة جوانبها ، عاطفياً .. ومعاناة مع الطبيعة القاسية بين الجبال فى أعماق الصحراء .. بدأتها ولم أكن أعرف ما يخبئه القدر ، ونحن مقدمون على حرب مع العدو الصهيونى ، ولا يعرف مصيرها إلا الله ...
ذهبت هى الى " لاجوس " .. طارت ، وطار قلبى معها .. ولم تترك لى سوى الذكريات ، ولكنها عاهدتنى قبل سفرها على إستمرار الاتصال والمراسلة ليطمئن كل منا على الآخر ، وإعترفت بأن مكانتى لديها لا يمكن أن تتزعزع أو تتأثر .. وأن صورتى لا يمكن أن تهتز مهما طال الزمن .. ومهما باعدت بيننا المسافات ، وتغيرت الظروف .. كما يقولون " اللى فى القلب .. حايفضل فى القلب " ...
( 9 )
مضت خمس سنوات ..
إنقطعت فيها الاتصالات ، ربما لأسباب خارجة عن إرادتنا ، وتخللت تلك الفترة حرب تحرير سيناء والتى حققنا فيها النصر بمشيئة الله ، وما أن تقرر خروجى من القوات المسلحة بعد إنقضاء فترة تجنيدى ، حتى عدت الى عملى ، وتوليت مسؤلياتى الجديدة ، وتغير موقع مكتبى .. ومرت الأيام ..
كنت جالسا بمكتبى ذات يوم ، وفى منتصف النهار .. فوجئت بها أمامى ، رأيتها على نفس الصورة التى رأيتها عليها أول مرة ، مازالت جميلة .. وأنيقة ، كانت كما تركتها منذ خمس سنوات ..
كم كانت مفاجأة رائعة أن نلتقى مرة أخرى بعد طول غياب ، وعلى غير موعد .. فكان هذا دليلاً على الوفاء بوعدها .. أن صداقتنا دائمة ولن تنتهى ، مهما تبدلت الأحوال ، وتغيرت الظروف .. كانت مشاعر صادقة حقاً ، تجلت بالوفاء والحب ..
جلسنا لحظات .. يحاول كل منا أن يشبع نظره بصورة الآخر بعد طول غياب ، حتى جاء عامل الكافيتريا ، وطلبت لها عصير الليمون كما تعودت منى عندما كنا نلتقى ، تبادلنا الأسئلة عن الأحوال ، وعن أحداث سنوات الفراق ، كان كل منا فى لهفة ليعرف أخبار الآخر ...
كانت قد قضت مع زوجها نحو عام فى " نيجيريا " ، إنتقلا بعدها الى القاهرة حيث مكثا هناك أربعة سنوات ، ترقى بعدها الزوج الى درجة سكرتير ثان ، وتم تعيينه فى سفارتنا بالفاتيكان بروما ، حيث كانا يستعدان للسفر عندما إلتقينا ، لذا كانت حريصة على أن ترانى قبل سفرها ...
أنجبت خلال تلك الفترة زهرتان جميلتان .. أخذتا عنها صفات الجمال والرقة ، وعاشت الأسرة الصغيرة فى سعادة ، وحاول زوجها أن يعوضها ما عانته آلآم قبل إقترانها به .. وكان مثالاً للرجل الدبلوماسى الذى يعرف كيف يتعامل مع الجنس اللطيف كما يسمونه ، وكان يحبها حباً صادقاً .. جماً .....
كنت فى ذلك الوقت قد بدأت أولى خطواتى للزواج .. وتبادلنا الأخبار ، وما طرأ على حياتنا من تطورات ، وكان كل منا يحرص على ألا يسيئ الى الآخر بأى تصرف أو كلمة .. حفاظا على الإستقرار الأسرى .. والسعادة المنشودة ..
إفترقنا مرة أخرى .. إفترقنا على أمل اللقاء الذى لم نعرف له موعداً .. سافرت هى الى " روما " حيث كان يتعين على زوجها أن يقضى هناك أربعة أعوام وفقا لنظام العمل الديبلوماسى .. فكنا نلتقى كل صيف خلال أجازتها الصيفية ، وحرصنا على أن يكون اللقاء فى إطار إجتماعى مع الزملاء والأصدقاء فى النادى ، وكان يشاركنا فى هذه اللقاءات أحيانا زوجها .. الذى أحب فينا مشاعر الأخوة ..
وما أن انتهت فترة عمل زوجها فى " روما " حتى تم نقله الى سفارتنا فى "نيوزيلاندا " حيث فترة عمل جديدة لمدة أربعة سنوات بعد ترقيته الى درجة "سكرتير أول " ...
ألحقت إبنتيها فى المدارس التى تقع فى أحد ضواحى العاصمة ، وكانت تقوم بتصويلهن ذهابا وإيابا يوميا بسيارتها الخاصة ، لتطمئن عليهن ... فقد كانتا تمثلان ثمرة حبها من الرجل الذى قدرها ، وعرف قيمتها ..
ذات صباح .. كان الشتاء بارداً .. غطت الثلوج الجبال المتصبة على جانبى الطريق الذى تمر منه الى مدرسة إبنتيها يوميا ، وبعد أن أوصلتهن الى المدرسة فى ذلك الصباح وودعتهن بالقبلات كالمعتاد .. إنصرفت عائدة الى منزلها ..
فى منتصف الطريق .. كان للقدر رأى آخر .. لقد كتب القدر تلك النهاية المأساوية التى غيبتها عن العالم فى ثوان معدودات .. إنهارت فوقها بعضا من الجبال الجليدية ، ودفنت بسيارتها تحت الجليد ، وعندما وصلت سلطات الانقاذ ، كان كل شيئ قد إنتهى .. ذهبت .. غابت الى الأبد .. أصبحت ذكرى لن تنسى ...
ذهبت ..
ذهبت دون وداع .. دون رجوع ..
تركتنا نسبح ملتاعين .. فى نهر دموع ..
باتت فى ظلمة قبر أبيض .. دون شموع ..
والأمل مازال يراودنى .. بيوم رجوع ..
هيهات ليوم قد ترجع بعد ذهاب مفجوع ..
لا نملك إلا أن نرضى بقضاء البارى ..
وبكل خشوع ...
==================================
فى محيط الذكريات ........
( 1 )
إلتقيت بها صدفة ، رتبها القدر ..
جمعتنا ظروف العمل ..أحس كل منا بأن هناك شيئ يجذبه للآخر ، فكانت نظرات متبادلة بين الحين والآخر ، تريد أن تستكشف ذلك السر الكامن داخل كل منا ، لكن كل منا كان حريصا على المظهر الاجتماعى ، وألا يلفت نظر أحد ممن حولنا حتى لا تشوب هذه المشاعر الجميلة أية عقبات تحول دون نمائها ، لاسيما وأنها كانت كالنبتة الصغيرة التى تحتاج لمن يحوطها ويحميها من أية عوامل محيطة بها قد تعصف بها وهى ما زالت فى أمس الحاجة الى الرعاية .. حتى تنمو وتصبح شجرة كبيرة قوية تحمى نفسها .. تثمر أجمل المعانى .. وستظل بها الآخرين من الأحباب فى عالم الرومانسية الجميلة ..
كانت تبدو فى نظر الآخرين على أنها الانسانة المغرورة بجمالها ، فقد أنعم الله عليها بصفات الجمال الذى تتمناه كل أنثى .. كان الآخرون يشعرون بأنها تتعامل معهم من أعلى .. وربما كانوا يشعرون بكبريائها ، وترفعها ، بحكم نشأتها الراقية بأحد الأحياء المتميزة فى مدينة القاهرة .. وأسرتها التى تنتمى الى أصول تركية رفيعة ، ووالدها الذى كان يشغل وظيفة رفيعة كأستاذ فى أحدى الجامعات الحكومية الهامة ..
كانت نظرة ظالمة من الآخرين .. لأنهم لم يطلعوا على الحقيقة .. وكيف يعرفونها وقد إحتفظت بها خلف جدران عالية من الرسميات فى التعامل ، والتحفظ فى الحديث .. فلم يعاشرونها أو يقتربوا منها .. وكان لهم العذر .. فلم تكن تسمح لأحد بهذا الاقتراب .
كم أنت غريب أيها الزمن ...
تعطى للآخرين إنطباعا عن أناس .. بأنهم يملكون كل شيئ ، ينعمون بعذاب الآخرين ، يملكون القوة والجبروت ، لا يعرفون الرحمة ، مغرورون ومتكبرون ، لا يملكون العاطفة .. لا يعرفون الانسانية ،،،
وهم فى الحقيقة ضعفاء .. يعانون من ظلم البعض الآخر .. يحملون هموم تنوء الجبال بحملها ، لا ينامون الليل كما ينام منتقديهم ، يبحثون عن الحب والحنان ، يتسولون الرحمة فى صمت وصبر .. يتألمون من العذاب ، كمن يتقلب على جمار النار .. يشعرون بينهم وبين أنفسهم أنهم أوشكوا على الانهيار ، يحلمون بزراع قوية تشد من عضدهم ، وتحول دون سقوطهم ، لكنهم فى النهاية .. وبرغم من حولهم ، يشعرون بأنهم يقفون وحدهم فى صحراء قاسية ، لا يحيط بها سوى الضباع والذئاب التى تتحين الفرصة لينهشوا جسدها الرقيق ..
وما زلنا على حافة المحيط.. نستعد للابحار ...........
( 2 )
كانت زميلة لى فى العمل .. بالادارة المجاورة .. بنفس الطابق ..
كان كل منا يحرص على أن يظهر بأنه ألتقى بالآخر صدفة .. فيلقى عليه تحية الصباح ، وكان كل منا يسعى الى الآخر كلما تأخر عنه .. كم كانت تحية الصباح جميلة ، وممتعة وهامة ، ولكننا كنا نخفى حقيقتها كنوع من التحفظ تلافيا للحرج وحفاظا على الكرامة والمظهر العام ، بالرغم من إحساسنا بأهميتها وحلاوتها ، فقد كانت تبعث فينا نوع من السعادة والتفاؤل والأمل والنشاط كل صباح .. وصرنا نقترب من بعضنا رويدا رويدا ...
ذات صباح .. كنت صاحب المبادرة الأولى ، فأنتهزت فرصة إلقائها تحية الصباح ودعوتها لتناول قدحا من الشاى .. فترددت لحظات ، وكأنها تريد أن تجرى بعض الحسابات الشخصية على هذا الموقف المفاجئ .. ولكنها رحبت بالفكرة .. وجلسنا
تجاذبنا أطراف الحديث فى الأمور العامة .. ثم تطرقنا الى بعض أمور العمل .. وتحولنا شيئا فشيئا الى النواحى الشخصية ، كالهوايات والاهتمامات .. وقضاء وقت الفراغ .. ثم عبرت لها عن إعجابى بذوقها فى إختيار ملابسها بعناية .. وإمتدحت فيها عدم المبالغة فى إستخدام مساحيق التجميل ، وعقبت بأن ذلك أمر طبيعى .. لأنها لا تحتاج الى ذلك .. فقد منحها الله قدرا من الجمال الطبيعى الذى تتمناه كثيرات .. وأحسست بنظرتى فى أعماق عينيها ، بأنها تكاد تقفز سعادة بما سمعت ، وقد علت وجنتاها حمرة الخجل ، ومع ذلك حاولت أن تتماسك بالقناع المتحفظ ، وأكتفت بكلمة " مرسى " .. ولكننى كنت قد حصلت من المعانى والأحاسيس على أكثر من ذلك .. لقد حصلت على تصريح بالحديث الشخصى ..
أرادت أن تهرب من الموقف قبل أن تظهر عليها بعض المشاعر التى تريد أن تخفيها ولو مؤقتا .. وأن تحتفظ بتماسكها قبل أن ينهار ، فالأنثى هى الأنثى .. لاسيما عندما تسمع كلمات تحبها من رجل يحتل مانة خاصة بالنسبة لها .. فتلعب الكلمات دورا فى دغدغة العواطف .. ومداعبة القلب ، ولكن الصراع بين الأحاسيس والمظاهر ، كان يحسم لصالح المظاهر فى بادئ الأمر .. والى حين ،
إستأذنت فى الانصراف بحجة العمل .. ولم أشأ أن أثقل عليها ، فاستجبت لطلبها ، وطلبت منها ألا تتردد فى تكرار مثل هذه الجلسات كلما سمحت الظروف ، وكلما أحست برغبتها فى ذلك ، وعبرت عن سعادتى بالحديث إليها .. وإنصرفت ...
كنت متأكدا فى أعماق نفسى بأنها ستعيش بعض الوقت فى تبعات هذه الجلسة ، وستسترجع ما دار فيها قبل أن تقرر المضى قدما فى الطريق الذى أحست بأنه بارقة أمل نحو بعض الراحة النفسية التى تحتاج اليها .. وربما بالثقة التى بحثت عنها كثيرا من قبل تجاه الآخرين دون جدوى ، لأنها كانت تصاب بالاحباط والصدمة فى كل مرة كانت تحاول فيها ذلك ..
تصادف غيابى عن العمل فى اليوم التالى مباشرة ...
حاولت أن أبتعد بذاكرتى وفكرى عن العمل بما فيه من متاعب ،
أردت أن أستمتع براحتى فى هذا اليوم حتى يتجدد نشاطى لمواصلة العمل فى اليوم التالى .. إلا أن وجهها الجميل لم يفارق خيالى ولو للحظة .. وفكرت فى أثر غيابى هذا عليها ، وهل ستلحظ ذلك أم لا ؟ هل ستهتم ؟ هل ستسأل ؟ وكيف سيكون اللقاء التالى بعد هذا الغياب المفاجئ ؟ هل ستشعر بنفس الدرجة من الشوق واللهفة الى إلتقاء العيون ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ياله من يوم طويل .. تمر فيه الدقائق وكأنها ساعات .. وتمر فيه الساعات وكأنها سنين .. متى سيأتى الصباح التالى ؟؟
( 3 )
كان ليلا طويلا .. مليئا بالأفكار والهواجس والتوقعات والتساؤلات ..
كلما تقلبت فى الفراش .. نظرت الى ساعتى على ضوء المصباح الخافت المجاور لفراشى ، ثم أعاود المحاولة للنوم .. دون جدوى ، حتى تسلل ضوء الصباح الخافت من خلف ستائر غرفتى ، فسارعت بالقيام للاستعداد للذهاب الى عملى وفقا للروتين اليومى المعتاد ..
فى وقت قصير .. كنت فى السيارة التى تقلنى الى العمل كل صباح ، وقررت أن أتوجه الى مكتبى مباشرة ، حيث كانت واجهة المكتب الزجاجية تسمح لى برؤية القادمين صباحا من جهة المصعد أو السلم عبر البهو الخارجى الى مكاتب الادارة الأخرى .. وكانت فرصة أن أذهب الى مكتبى مبكرا لرؤيتها قبل أن تصل فى موعدها المعتاد ..
تخيلت نفسى وقد وصلت الى مكتبى وفتحت الجريدة الصباحية متظاهرا بتصفحها بينما عيناى مصلتتان على المصعد حتى أرى اللحظة الأولى لخروجها ، ورد فعلها عندما تمر أمام مكتبى ، وكيف ستكون نظراتها للوهلة الأولى .. كثير من الملاحظات التى يمكن أن استنتج منها الكثير ..
كنت غارقا فى تفكيرى وتصوراتى .. وأطلقت العنان لإستنتاجاتى المفائلة والمتشائمة .. ونتائج هذه الاستنتاجات مستقبلا ... مئات من التصورات المتناقضة .. فى دوامة من الشوق الى رؤياها .. بينما وقفت السيارة على باب العمل ، فقفزت منها مسرعا الى المصعد .. ومنه الى الطابق الثانى حيث كان مكتبى .. وسرت بسرعة وخفة الى مكتبى ، وفتحت باب المكتب ، وتسمرت فى مكانى من المفاجأة التى لم أتوقعها ..
كانت جالسة أمام مكتبى .. وعيناها على باب المكتب .. وبادرتنى بقولها فى رقة وعذوبة " صباح الخير " ..
أخذت نفسا عميقا .. ناظرا اليها ، وبعد لحظات إستجمعت فيها تركيزى ، وأجبت " صباح النور " ....
- ما جيتش ليه إمبارح ؟؟ ( بدت على ملامحها مشاعر الانشغال والقلق )
- كنت تعبان شوية . ( أجبتها وأنا أنظر الى عينيها الخضراوتان الصافيتان نظرة عميقة .. وكأننى إريد أن أغوص فيهما الى الأعماق الساحقة .. )
- سلامتك .. الادارة كانت مظلمة من غيرك .. حمدالله على السلامة ..
- الله يسلمك .. متشكر جدا ،،
هكذا كانت لحظات سريعة وجميلة .. حملت أجمل المعانى والأحاسيس الصادقة التى كان كل منا يحلم بها .. ويشتاق اليها بعد طول بحث وإنتظار ..
أحسست حينها أنها كانت عظيمة لأنها فتحت باب العاطفة على مصراعيه ، أزالت كافة الحواجز فى ثوان معدودة .. مهدت الطريق بيننا بكلمات بسيطة وقصيرة ومباشرة .. قربت فيما بيننا مسافات يقطعها الآخرون فى شهور .. إستطاعت ذلك بعقلها الراجح ، وثقة رائعة فى النفس .. أضافت الى جمالها مزيدا من الجمال .. نعم جمال العقل والصدق فى المشاعر والبساطة فى التعبير ..
عبرت لها عن سعادتى البالغة بإهمامها والسؤال عنى .. وأمسكت بالفرصة التى قدمتها لى على طبق من ذهب .. وسألتها :
- كيف تقضين وقت فراغك ؟
- فى ممارسة هواياتى بالمنزل ، أو زيارة بعض صديقاتى أو قريباتى من العائلة .. وأحيانا الذهاب الى النادى .
- النادى ؟ فى أى وقت تذهبين ؟ إننى أحرص على الذهاب الى هناك بصورة منتظمة لممارسة الرياضة .. ولم أراك من قبل !!
- أنا لا أذهب بإنتظام .. وعندما أذهب الى هناك .. أجلس فى الصالون لمطالعة بعض الكتب ، أو العزف على البيانو القابع فى أحد الأركان ..
- إذن أنت من هواة العزف على هذه الآلة الرائعة ؟
- حاجة بسيطة على قدى ، مش للدرجة اللى إنت فاكرها .
- بما أننى من محبى سماع الموسيقى ، لا سيما إذا كان العزف حياً .. هلى أستطيع أن أتطفل عليك عندما تذهبين الى هناك ، لأجلس فى محرابك ، وأستمع الى عزفك ؟
- ياريت .. بس ما تتريقش على ..
- موافق .. متى ؟
- يوم الأحد القادم ..............
( 4 )
أخذت أنظر الى ساعتى بين لحظة وأخرى ..
كنت جالساً فى حديقة النادى مساء اليوم الموعود .. وأخترت فى جلستى أن أكون مواجها لمدخل النادى حتى أراها عند حضورها .. وما أن حلت الساعة الثامنة مساء .. حتى رأيتها تعبر البوابة الرئيسية ، وقد ألقت تحية المساء الى موظف الأمن برقتها وإبتسامتها الخفيفة التى كانت تأثر بها الآخرين ..
كانت ترتدى رداء فضفاضا ذات لون كحلى ، جعل بشرتها البيضاء تبدو وكأنها تضيئ تحت الضوء الخافت الذى يسقط عليها من أعمدة الانارة القريبة من المدخل ، وإنساب شعرها الأصفر وكأنه سبائك من الذهب على وجهها اللؤلؤى الوضاء ، وتدلى من أذنيها قرط رقيق من حبات اللؤلؤ الذى أرتدت منه عقداً طوق عنقها الجميل ، وكان حذاؤها وحقيبتها بنفس لون فستانها الرائع ..
تهادت فى مشيتها على الممر المؤدى الى الحديقة بخطوات متزنة وواثقة .. تسير فى عز وكبرياء الأميرات .. وكان أنفها الدقيق مرتفعاً قليلاً ليعلن عن العظمة والرقى اللذان كانت تتحلى بهما .. وكان صوت دقات حذئها على رخام الأرضية كدقات منتظمة رقيقة تعلن عن قدوم أميرة الجمال ..
نهضت من جلستى مسرعا لإستقبالها على الممر ، مرحبا بها .. ناظراً إليها بعينين مبهورتين .. تكاد تلتهمها إلتهاما ، فقابلتنى بإبتسامتها العذبة من شفتين هما كحبتين من ثمرة الفراولة الناضجة ، أظهرتا من تحتهما صفين من اللؤلؤ الرقيق رصهما المولى بعناية بالغة الدقة ..
وبعد أن رحبت بها ، دعوتها لتناول فنجان من الشاى بالحديقة قبل أن ندخل معا الى صالون النادى ..
جاءت جلستنا تحت مصباح ذات لون أحمر ، فأضفى على سحرها سحراً آخر .. وأضاف الى الجلسة جواً من الرقة والرومانسية مهدت الحديث للاتجاه الذى كنت أتمناه .. وتناهى الى مسامعنا صوت من الموسيقى الهادئة التى كانت تنبعث من أجناب الحديقة ..
دارت بنظرها فى أرجاء الحديقة ، وكأنها تستعرض الجالسين على مسافات متباعدة شيئا ما .. وعندما وصلت عيناها إلى ، كنت جالسا فى صمت بينما أنظر إليها مشدوها بجمالها ، غير مصدق لوجودها معى على إنفراد .. وحدنا .. إلتقت عيوننا فى نظرة إستمرت ثوان معدودات .. هربت بعدها بعينيها الى الجانب الآخر من الحديقة ، وكأنها بذكائها أرادت أن تخفف من حرارة المشاعر التى أحاطت بنا ولكنها عادت للنظر الى متوقعة منى الحديث .. فوجدتنى مستمراً فى النظر إليها فى صمت عميق .. فبادرتنى بالسؤال :
- مالك ؟؟
- ..............
- ( فى دهشة ) .. خير ؟ فيه أيه ؟؟
- .............
إتجهت بنظرها الى الجانب الآخر لثوان وكأنها تفكر كيف تتصرف فى هذا الموقف ثم عادت تسألنى :
- إيه الحكاية ؟
- أرجوكى .. ممكن أحلم شوية ؟؟
- تحلم بايه ؟
- بالسعادة اللى طول عمرى أسمع عنها ..
- آه .. يظهر إنك نويت تغنى قبل ما أعزف ..
- إنت بدأت العزف فعلاً ..
- إزاى ؟؟
- كلماتك فى أذنى كأنها لحن جميل من ألحان الحب ..
- ممكن نتفق على حاجة ؟
- ممكن ..
- مش نأجل الكلام ده شوية .. لغاية ما نتكلم عن بعضنا الأول ؟؟
- مش قادر .. بس أنا عندى إقتراح ، إيه رأيك لو أرجأنا الحديث عن بعضنا الى الجلسة القادمة ..؟؟
- موافقة .. بس بشرط .
- أشرط ياجميل ..
- ندخل الصالون عشان ألعب على البيانو شوية ..
أرادت بذكائها أن تخفف من حدة الاندفاع العاطفى من جانبى .. وكأنها تشعر بأن حاجزاً ما بيننا ، لم يحن الوقت بعد للخوض فيه .. أو الحديث عنه ..
قمنا من جلستنا متوجهين الى الصالون .. ثم الى الركن الذى يضم آلة البيانو .. جلست ، ورفعت غطاء المفاتيح .. وأخذت تختبر النغمات ، ثم بدأت بالعزف بأصابعها الرقيقة التى كانت تقفز على مفاتيح البيانو بخفة ورشاقة محسوبة بدقة لتصدر نغمات رقيقة وعذبة مبهرة ..
كانت فى قمة الثقة وهى تعزف .. كانت تغوص بكل حواسها فى النغمات التى تعزفها ، كانت كمن يحلق فى سماء الفن ، وكنت جالسا بجوارها فى صمت وهدوء عجيب ، أحبس أنفاسى خوفا من إزعاجها أو إخراجها من الحالة الهائمة التى كانت عليها .. متمتعا بما عزفت ببعض ألحان الأخوين رحبانى ، وإختتمت عزفها بلحن كلمات الأغنية التى شدت بها الفنانة العظيمة فيروز :
أعطنى الناى وغنى ..
فالغنى سر الوجود ..
وأنين الناى يبقى ..
بعد أن يفنى الوجود ..
...................الخ
وما أن إنتهت من عزفها وأنا هائم فى حالم من الخيال والرومانسية .. حتى أفقت على صوت تصفيق ..
كنت أظن أننى أستمع إليها وحدى .. ولم ألحظ – من فرط إندماجى معها – أولائك الذين تسللوا حولنا بهدوء ليشاركوننى المتعة .. فكان تصفيقهم لها مثار فخر وإعتزاز من جانبى ، لأننى أحسست وكأننى قد إمتلك الدنيا وما فيها ..
وللعزف بقية ..................
( 5 )
كما تعودت .. إستلقيت على فراشى فى ضوء خافت ، يلفنى سكون الليل بعد أن عدت الى منزلى متأخراً فى تلك الليلة ، إسترجعت ما دار فى ذلك اللقاء التاريخى مستعرضا تفاصيل الأحداث منذ أن إلتقينا فى حديقة النادى وحتى إنصرفنا .. وقد إنتابنى بعض القلق والحيرة ، فقد أحسست بعدم التجاوب مع أبديت من مشاعر العاطفة بنفس القدر من الاندفاع ، بل أننى أحسست بنوع من الهروب الذى يخفى سراً دفينا وراء تلك العيون الصافية ، وربما حاجزاً هلامياً لا أستطيع أن أراه أو أتلمسه .. وما دفعنى للحيرة ، هو ما لمسته من تعارض بين هذه المشاعر ، وما بدا لى يوم رأيت رد فعلها على غيابى المفاجئ عن العمل ، وما لمسته من إهتمام وقلق من جانبها لا ينم إلا عن منزلة خاصة بالنسبة لى فى أعماقها ..
ترقبت حضورها الى العمل فى اليوم التالى .. فكانت كالعادة مهتمة بإلقاء تحية الصباح ، وتبادلنا كلمات الاطمئنان والمجاملة ، وإنصرف كل الى عمله كالمعتاد .. حتى جاءت الفرصة فى وقت لاحق من نفس اليوم ، لأمر عليها فى مكتبها وأسألها عن إحساسها بعد لقاء الأمس .. فأعربت عن سعادتها البالغة ، وأنها قضت وقتا جميلاً فعلاً ، وأنها لا تمانع من تكرار اللقاء لأنها لمست ما يبعث فى نفسها الثقة من جانبى ، لما لمسته فى شخصى من عقل وإتزان على حد تعبيرها ولكننا لم نتفق على موعد محدد لهذا اللقاء ، ولم أحاول أن أثقل عليها بهذا الطلب وتركت ذلك الى وقت لاحق ، وأن كنت قد ألمحت فى معرض الحديث الى مواعيد ذهابى الى النادى لممارسة الرياضة ...
كان يوم الخميس .. حيث يمثل عطلة أسبوعية مع يوم الجمعة بالنسبة لجهة عملنا .. وذهبت كعادتى مبكراً الى النادى .. فاستبدلت ملابسى وأرتديت بدلة التدريب ، ونزلت الى ملعب كرة القدم حيث بدأت تمارين الاحماء والعدو حول الملعب كالمعتاد .. وما إن مرت دقائق حتى فوجئت بها وقد إرتدت ملابسها الرياضية ، وجاءت لتعدو بجوارى ، وأبدت رغبتها فى إستكمال البرنامج الرياضى بصحبتى ، وبنفس الروتين الذى أتبعه .. حيث نزلنا الى حوض السباحة بعد الانتهاء من التمارين الرياضية وإستبدال ملابسنا ، فأكتشفت أيضا أنها سباحة ماهرة .. فكنا نسبح تارة ، ونتبادل أطراف الحديث تارة أخرى على سبيل الاستراحة .. الى أن إتفقنا على الاكتفاء بهذا القدر ، والخروج لاستبدال ملابسنا لتناول طعام الغداء بمطعم النادى ..
دلفنا الى صالة الطعام .. وإخترنا ركناً هادئا لتناول الغداء .. وحاولت أن أتطرق لبعض الأمور الشخصية والعاطفية .. إلا أنها طلبت تأجيل ذلك الى ما بعد الغداء عندما نجلس فى الحديقة لتناول الشاى ..
إنتقلنا بعد الغداء الى الحديقة نتناول الشاى ، وبادرت هى بالحديث ، فطلبت منى أن أتحدث عن نفسى .. فأجبتها بأن أصول البروتكول تفرض علينا الأخذ بمبدأ "السيدات أولاً " .. فوافقت ، ولكنها أبدت خوفها من شعورى بالملل من الاستماع على حديثها .. كما أكدت على أنها المرة الأولى التى تتحدث فيها الى أحد فى أمورها الخاصة ، موضحة أن مبعث ذلك هو ثقتها البالغة فى شخصى ، وأنها تشعر بأننى سأكون بالنسبة لها فى محل الصديق المخلص الأمين الذى كانت فى حاجة إليه قبل لقاؤنا ، لتتحدث إليه من آن لآخر عندما تشعر بالحاجة الى ذلك .. لا سيما وأنها متحفظة بطبعها مع الآخرين ، ولكنها كانت تحتاج لمن تفتح له قلبها ، لتفرغ ما قد يعتريها من شحنات نفسية تمثل عبئا عليها أحيانا ، وربما تطلب المشورة والنصيحة المخلصة أحيانا أخرى ..
رحبت من جانبى بذلك .. وطمأنتها الى أننى سأكون مستمعاً جيداً لحديثها دون ملل ، خاصة إذا كان الحديث سيخرج من بين هاتين الشفتين الرقيقتين التى أحب أن أتطلع إليهما .. فشكرتنى على المجاملة ، وبدأت الحديث ....
كانتا شقيقتان لشقيق واحد .. من أب كان يعمل أستاذا بأحد الجامعات الحكومية المرموقة .. ووالدتها من أصل تركى الجنسية .. وكانت هذه الأسرة تقيم فى أحد الأحياء الراقية بمدينة القاهرة .. وقد هاجر الشقيق الوحيد الى الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على الجنسية ، وأصبح دائم الاقامة هناك ..
تزوجت شقيقتها وإنتقلت الى منزلها الجديد لتكوين أسرة جديدة .. وأخذتها مسئوليات حياتها الجديدة .. وشغلتها دوامة المسئولية كالآخرين ..
تزوج والدها من أخرى بعد أن أصيبت والدتها بمظاهر وأمراض الشيخوخة ، وتركها والدها فى رعاية إبنتها الباقية والمقيمة معها وحيدتان .. يصارعان الحياة دون راع يهتم بهن ويحميهن من جور الزمان وقسوته ، وطمع الطامعين .. فكان إحساسها بالخوم وعدم الثقة فيمن يحيطون بها سببا لتحفظها فى التعامل مع الآخرين ، ومحاولة إخفاء المأسآة التى تعيشها ..
ظنوا أنها مغرورة .. ومتكبرة ، وصفوها بالكثير من الصفات التى لا تمت للحقيقة بصلة .. ولم يكونوا على دراية بالمأساة التى تعيشها المسكينة .. هكذا الحياة ، وهكذا الناس ، لا يحكمون إلا بظاهر الأمور .. ولا يعلم ببواطنها إلا الله سبحانه وتعالى ..
إستطاعت أن تنهى دراستها الجامعية .. وتخرجت من كلية الآداب – قسم اللغة الأنجليزية ، وسعت لنيل وظيفتها الحالية .. وتحملت المسئولية الكاملة لرعاية نفسها ووالدتها .. مع بعض المساعدة الرمزية من والدها الذى شغلته زوجته الجديدة .. الشابة .. الحسناء .......
كانت صديقتى على قدر كبير من النضج والعقل وقوة الشخصية التى نحتتها قسوة الزمن والظروف الاجتماعية القاسية .. فحددت لنفسها مواصفات دقيقة للرجل الذى يمكن أن يقترن بها ..
تقدم إليها بعض الزملاء فى العمل .. أختلفت درجاتهم الوظيفية ومواصفاتهم وشخصياتهم .. ولكنها لم تتعجل فى قبولهم .. لم تنطبق عليهم المواصفات التى تمنتها فى شريك حياتها ..
لعب القدر دوراً فى لقائها أخيراً بالشخص الذى رأت فيه فتى أحلامها .. طويل القامة ، جميل الملامح ، من أسرة مقتدرة فمنحته الامكانيات المادية المناسبة ، وكان يعمل مهندساً ، وكان فى تلك الفترة مكلفا بالقوات الجوية المصرية ، فكان كلما نزل فى أجازة ، إرتدى الزى العسكرى الجميل المبهر برتبة ضابط ، فكان على حق مبهراً وجذاباً لكل فتاة تتطلع الى شريك حياتها .. لأنه كان يبدو كفارساً نبيلاً من أبطال الأفلام الرومانسية ..
توافرت له مظاهر الجاذبية فضلاً عن الامكانيات المادية التى وفرت له سيارة جميلة ، وبعض الميراث من الأراضى والعقارات التى تدر عليه دخلاً طيبا .. فأكتملت كل مقومات الجاذبية ..
تقدم إليها طالبا إياها للزواج .. ياله من عرض جميل تتمناه أى فتاة .. الجمال والمنصب والمال .. فقبلت به .. وتم عقد القران فى حفل عائلى محدود ....
( 6 )
كان الخطيب يقضى ثلاثة أسابيع بمعسكره بالقوات المسلحة ، وأسبوعا خارج المعسكر كأجازة ، فكان يقضى هذا الأسبوع مع خطيبته فى نزهات متنوعة ، وقضاء أجمل الأوقات فى وسائل الترفيه المتنوعة كدور السينما والمسرح والحدائق العامة .. لم يكن يفرق بينهما إلا ساعات الليل ، الى أن يلتقيا فى اليوم التالى لاستكمال متعتهما معاً قبل إنتهاء الاجازة .. فكانت فترة الخطوبة مثالاً للاستمتاع الممتزج باللهفة والشوق الى اللقاء فى كل مرة .. كانت أجمل الذكريات بين نموذجين للحب والجمال ..
مضت أشهر قليلة على هذا النحو .. حتى كانا يجلسان ذات مساء فى أحد المطاعم الراقية على ضفاف النيل يتناولان العشاء فى جو حالم من الرومانسية .. تشكل الموسيقى الهادئة خلفية رائعة لهذه اللوحة البديعة ..
تحدث إليها عن وضعهما فى ذلك الوقت .. وكم كان يحتاج لأن يكون بجوارها ليرعاها هى ووالدتها كلما عاد من معسكره فى أجازته .. وأن الوقت الذى يمر هو بمثابة إضاعة للوقت .. وأن خروجهما معاً يعد أنانية منهما للإستمتاع بالحياة بعيداً عن والدتها التى يتمنى أن يكون إبنا بجوارها .. يهتم بهن ، ويسهر على راحتهن ، وقضى حاجتهن .. ويحميهن من جور الزمن والمجتمع ..
ولما كان إرتباطه بالقوات المسلحة لفترات طويلة ، فإن المنطق يملى نفسه بأن يقيم معها فى شقة الأسرة معها ووالدتها ، دون حاجة عاجلة لتأثيث شقة وإغلاقها .. وعدم الاستفادة منها ، على أن يكون هذا حلاً مؤقتا الى أن تنتهى فترة تجنيده بالقوات المسلحة ، لقيما معاً بصفة دائمة ، كما أنه لا يريد أن يضيع أياماً من عمرهما بين الفرقة والحرمان .. خاصة وأنهما متزوجان فعلاً أمام الله والمجتمع ... كان منطقا مقبولاً .
وعدته أن تناقش الأمر مع والدتها بإعتبارها صاحبة القرار فى هذا الموضوع ، وطمأنته بأنها ستحاول إقناعها بهذا الاقتراح ، وأن الأمر لن يكلفهما سوى غرفة واحدة فى شقة الوالدة ..
وافقت الأم .. خاصة أنها تريد لإبنتها السعادة والستر على حد تعبير المجتمع ، وجاءت موافقتها من منطلق ثقة إبنتها فى هذا الخطيب ، وأنها مادامت على قناعة بأن ذلك فى مصلحتهما فإنها لا تجد غضاضة فى ذلك ، وتمنت لهما السعادة.
إنتظرت خطيبها حتى الأجازة التالية .. وزفت إليه البشرى بموافقة الأم ، وإتفقا على الاكتفاء بحفل عائلى بسيط توفيراً للوقت ، وأن الحفل الكبير سيكون عند إنتقالهما الى شقتهما الدائمة مستقبلاً .. وقد كان ..
تم الزفاف ... وقضى الزوجان أجمل أوقات حياتهما .. سافرا معاً لأيام معدودات سمحت بها أجازته العسكرية الى أحد شواطئ مصر الجميلة ، فكانت مرحلة جديدة من حياتها ، ومضت الأيام والشهور ...
كان كلاهما يحسبان الأيام والساعات التى تجمعهما بلهفة وشوق بعد فراق .. وكانا يشعران بأن السعادة قد خلقت من أجلهما فقط .. فكانت الأيام السعيدة تمر مسرعة كأنها ثوان معدودة .. وكانا محل حسد ممن يراهما ، فقد كانا يؤلفان معاً قصة حب ، ويرسمان لوحة جمال وسعادة .. ونظمان شعراً فى الرومانسية لم ينظمه أحد من قبل ....
ولكن القدر أراد شيئاً آخر .. فقد أحست بعد حين بأن مشاعره نحوها بدأت تفتر شيئا فشيئاً .. وبدأت تشعر من جانبه ببعض التغير فى المعاملة التى أخذت طابعا من الجفاء فى كثير من الأحيان ، حتى أحست بأنه أصبح لا يسعى إليها إلا لينال متعة أو يشبع غريزة .. بل تطور الأمر الى محاول إستغلالها والإستفادة منها ، الى الحد الذى بدأ فيه يفتح حقيبتها فى غفلة منها ويعبث بمحتوياتها .. بل ليأخذ منها بعض المال .. فكان ذلك مثار دهشة وحيرة من جانبها ، وحاولت جاهدة أن تجد تفسيراً لذلك دون جدوى .. ولكنها حاولت ألا تترك الأمور لتصل بمشاعرها الى حد الصدمة ..
لم تيأس من المحاولة .. فأخذت تذكره بالأيام الجميلة ، والمشاعر النبيلة التى جمعتهما ، تلك الذكريات التى لا تنسى .. عسى أن تحرك عواطفه ومشاعره للإتجاه الصحيح ، وأن تحيى تلك المشاعر التى بدأت تختفى من حياتهما ، حاولت أن تحرك فيه نوازع وصفات الرجولة والشهامة التى كانت سببا فى قبولهما الزواج فى شقة والدتها .. وإتفقا على عدم الانجاب حتى ينتقلا الى سكنهما الدائم وإستقرارهما ..
عبثاً حاولت .... لقد ذهبت محاولتها أدراج الرياح ، ثم تطور الأمر الى الهجر ، فكان يقضى أجازته بعيداً عنها ، ولم تعد تراه .. وإنقطعت أخباره ، ولم يحاول الاتصال بها .. حتى شعرت بأن هناك شيئا ما غير عادى ، وأخذت تراوحها الظنون والأفكار ، ومع ذلك لم تكن تترك لنفسها العنان لتصل بالشك الى فقدان الأمل ، وحاولت أن تقنع نفسها بأن ما تعانيه إنما هو أمر عارض سرعان ما يزول ، وستعود المياه الى مجاريها كما يقولون ...
ذات مساء .. كانت تجلس مع والدتها أمام التلفاز .. عندما دق جرس الباب ، فقامت بفتح الباب ، فإذا بها وجها لوجه أمام أحد رجال الشرطة الذى بادرها بالسؤال :
- منزل السيدة / .............. ؟
- نعم ...
- حضرتك ؟
- نعم ...
- إتفضلى وقعى بالاستلام ..
- على ماذا ؟
- أنا آسف ياهانم .. ورقة الطلاق !!
لم تتمالك المسكينة شدة الصدمة .. وسقطت على الأرض مغشياً عليها ...
( 7 )
تلك كانت حالتها النفسية عندما إلتقيت بها ..
هكذا كان يراها الناس من الظاهر .. وهكذا رأيت أنا الحقيقة ، لم أتمكن من الدفاع عنها أمام الآخرين ، لأنها تملك هذا الحق وحدها ، وكنت ملتزما بالأمانة فى حفظ أسرارها ، تألمت بينى وبين نفسى ، وعشت صراعا داخليا بين رغبتى فى دفع الظلم عنها ، وعجزى عن ذلك لأننى إلتزمت بالعهد والوعد بحفظ أسرارها ، ولكن ذلك كان دافعا لى لأن أتعاطف معها ، وتولدت لدى رغبة صادقة فى إثبت لها بأن الدنيا مازالت بخير، وان أشد من أذرها لأعينها على إستمرار الحياة بأمل جديد ، يضمد جراحها، ويحميها من السقوط فى هاوية اليأس ، ودوامة الانهيار ... فتنتهى حياتها بالغرق فى محيط الأحزان بأمواجه العاتية ..
ربما أخطأت هى فى الاختيار عندما جعلت المظهر والمادة مقياساً لشريك حياتها ، ولكنها – وللأسف – هى التى دفعت الثمن غاليا ، هى وحدها دون غيرها ، هى التى عاشت الألم ، وعانت الجراح ..
رأيت كثيراً دموعها وهى تستمع الى بعض الأغانى العاطفية لعبد الحليم حافظ :
أنا الهوى هوايا .. أبنيلك قصر عالى .... الخ
أو لكوكب الشرق .. أم كلثوم عندما تشدو :
وعايزنا نرجع زى زمان .. قول للزمان إرجع يازمان ... الخ
وأيضاً :
إسأل روحك .. إسأل قلبك .. قبل ما تسأل إيه غيرنى ..
أنا غيرنى عذابى فى حبك ...... الخ
كانت الدموع تسقط كحبات اللؤلؤ من عينيها الجميلتين وهى تنظر الى مالانهاية ، فى صمت ، دون أن تتخلى عن البقية الباقية من كبريائها .. وكان قلبى يعتصر ألماً من أجلها .... يالقسوة القدر ..
حاولت أن أخفف عنها الألم ، وأن إعيد إليها الأمل ، وأن أبعث فيها القوة من جديد لتستكمل مسيرتها وحياتها بنظرة جديدة تحمل موعظة الدرس القاسى ، لتنطلق الى مستقبل أكثر حظاً ونجاحاً ، وتضمد جراحها وتنهض من جديد بعزيمة وشموخ ..
ما أن إنتهت من قصتها والدموع فى عينيها .. تناولت كأس عصير الليمون من على المنضدة ، وإرتشفت منه القليل .. ثم حاولت أن تتجاوز ما شعرت به من ألم الذكريات .. وإلتفتت إلى محاولة الابتسام .. قائلة :
- أنا آسفة .. يبدو أننى أزعجتك بحديثى ..
- إطلاقاً .. أنا على إستعداد للإستماع الى المزيد .. إذا كان هناك ما تريدين قوله ..
- أعتقد أن فى هذا الكفاية .. والآن جاء دورك فى الحديث ..
- أستأذنك فى تأجيل الحديث عن نفسى الى جلسة قادمة .. أما فى هذه الجلسة ، أريد أن أعقد معك إتفاقاً ....
- خيراً ؟؟
- أنا لا أحب أن أفرض نفسى عليك .. ولكننى فى الوقت الحالى ، وفى ظل الظروف التى تمرين بها .. أعرض عليك أن أكون صديقاً مخلصاً فى هذه المرحلة ، وربما إستطعت بقدراتى المتواضعة أن أخفف عنك ما تعانيه ، وعلى الأقل .. لا تكونى وحدك فى هذه المحنة .. ومن يعرف ؟ سنترك للقدر مستقبل هذه العلاقة وتطورها ..
( نظرت بعينيها الى الأفق البعيد .. وبدت وكأنها تفكر فى الأمر ) .. ثم قالت :
- أعتقد أن لقائى بك الآن .. وما تحدثت به إليك .. يعد موافقة مسبقة على ذلك ، وإذا كنت قد أخطأت إختيار الزوج ، فإننى على ثقة بأننى لن أخطئ فى إختيار الصديق ..
- أشعر بذلك منذ البداية .. لكننى أردت فقط أن إطمئن الى قرارك .. والآن دعينا نفكر فى الخطوات التالية التى يجب علينا أن نخطوها ..
عرضت عليها أن نرفع دعوى قضائية ضد هذا المخادع لنطالب بحقوقها الشرعية حتى لا يشعر أنها ضعيفة بظروفها الاجتماعية .. وحتى لا نتركه يهنأ بفعلته الدنيئة .. وعلى الجانب الآخر ، نستمر فى لقاءاتنا للتشاور والحديث ، وربما كان فى ذلك إحساسا بالمشاركة الوجدانية والأمان .. فضلا عن الراحة النفسية .. فوافقت على الفور .. وشرعنا فى تنفيذ ذلك ..
عاهدت نفسى أمام الله أن أفعل كل ما أستطيع لإخراجها من حالتها النفسية ، وأن أعوضها ما فقدته من السعادة وراحة البال .. وأن إعيد إليها ثقتها فى نفسها وفى الآخرين .. وأن أكون لها بدلاً من الأب المشغول بزوجته الشابة الحسناء .. والأخ الذى هاجر بعيداً .. ولتعلم أن الدنيا مازالت بخير .. وأن هناك ما يدعو الى التفاؤل بالمستقبل .. وأن ما حدث لا يمثل نهاية العالم .. بل هو مجرد صفحة من كتاب طويناها وإلقيناها جانبا ..
كان اللقاء التالى .. حيث تحدثت عن نفسى من منطلق الوضوح والتقارب ، وإزالة أى غموض من جانبى .. وعملاً بمفهوم الشفافية والصراحة التى إتفقنا عليها ..
كانت تكبرنى بخمس سنوات ..
وكنت أنا من أسرة متوسطة الحال ، وكنت قد إنتهيت لتوى من الحصول على شهادة الدراسة الثانوية التى حصلت بها على وظيفتى الحالية للمساعدة فى تربية أشقائى وإستكمال دراستهم بعد وفاة والدى .. فقد كنت أنا أكبرهم ، وأحسست بمسئوليتى عنهم .. وكنت قد أوشكت على إستكمال دراستى الجامعية .
هكذا كانت ظروفى الاجتماعية التى مثلت حائلاً دون التفكير فى الزواج فى ذلك الوقت قبل ان أنتهى من قيامى بواجبى الاجتماعى نحو أسرتى ، وأستكمل بناء مستقبلى العلمى والعملى ..
إنطلقنا معاً فى حياة جديدة ملؤها السعادة .. والأمل ..
لم نكن نفترق إلا ساعات الليل .. حيث نلتقى صباح اليوم التالى فى العمل لنضع خطة الترفيه المسائية .. أو اليوم التالى إذا كنا قبل عطلة نهاية الأسبوع ..
سجلنا أجمل اللحظات ، وأمتع الذكريات بين الحدائق ، والشواطئ ، ودور السينما والمسارح .. زرنا المتاحف والمعارض .. جلسنا فى المكتبات لمطالعة الكتب .. جلسنا على ضفاف النيل .. بل وسرنا فى النيل بقواربه .. مشينا على الأقدام مسافات ومسافات نتحدث فى كل شيئ دون أن نشعر بالوقت .. مارسنا الرياضة والسباحة .. وعدونا ، فسبقنا ظلنا .. كما شدت كوكب الشرق أم كلثوم ..
لم نترك رحلة جماعية أو ثنائية .. برية أو بحرية ، إلا وشاركنا فيها .. تجولنا فى المحافظات من الأسكندرية الى أسوان .. بين المدن والقرى ، والطبيعة الجميلة فى الريف المصرى ، تناولنا الطعام معاً بين الفاخر والبسيط ، جلسنا فى المطاعم الفاخرة ، وعلى الفرش البسيط على الرض فى الريف .. إستمتعنا بالعروض الموسيقية والغنائية .. شعرنا وكأننا عاشقين ينهلان من السعادة قبل أن يشاركنا فيها الآخرون .. ونريد أن نفوز بأكبر قسط منها ...
حاول كل منا أن يسعد الآخر بأقصى ما يستطيع ، كانت مشاعر طاهرة وراقية بين طرفين جمعهما العقل والإخلاص دون مصالح أو أهداف مغرضة .. وكلما مر بنا الوقت والزمن .. إقتربنا أكثر وأكثر .. حتى صرنا كجسد وعقل واحد .. فكان يكفينا النظر ليعرف كل منا ما يريد الآخر أن يقول .. كنا نتبادل أرق وأبلغ الكلمات وأصدق المشاعر .. بمجرد النظر ونحن صامتون .. لقد إرتقينا فوق تبادل المشاعر بالكلمات ...
كنا نشعر بأننا وحدنا فى هذا العالم ، ولو كنا بين مئات آخرين .. كانت الساعات تمر بيننا وكأنها ثوان معدودة .. كان الحديث همساً أو بالعيون .. مناجاة .. وغزل متبادل .. ما أسرع الوقت فى اللحظات السعيدة ..
شعرت فى وقت من الأوقات بينى وبين نفسى .. بأننى لن أجد من يناسبنى كحبيبة سواها ، كان كل منا يشعر بأنه فى حاجة ماسة للأخر كضرورة ملحة ، حتى يستطيع أن يعيش فى هذا العالم .. كان كل منا يكمل الآخر .. كنا كياناً واحداً لا يتجزأ ، ولا ينفصل .. ولكن الأقدار عودتنا بأنها لا تعطى للإنسان ما يتمناه فى كثير .. وربما فى إغلب الأحيان ..
كان هناك حاجزاً بيننا ..
دار بيننا حواراً ذات مرة .. كان حول التوافق بين الزوجين ، وتعرضنا للعلاقة التى جمعتنا ، فأشارت الى مدى ما تشعر به نحوى من الارتياح والثقة والأمان ، وما لعبته فى حياتها من دور لا يمكن أن تنساه .. بل أننى حفرت مكانا فى قلبها لا يمكن أن يزول بمرور الزمن ، ولكنها فى ذات الوقت تشعر بأن هناك بعض العقبات التى تحول دون أن يجمعنا الزواج .. ربما لأسباب لم تفصح عنها ، ولكننى فهمت أنها ربما تقصد فارق السن بيننا أو مسئولياتى الاجتماعية نحو أسرتى .. فآثرت ألا أخوض فى هذا الأمر حتى لا نفسد متعتنا بالحياة .. ولأن القدر سيقول كلمته فى النهاية حتماً ... ولن يكون أمامنا سوى الطاعة والاستجابة لمقدراته ..
ذات مساء .. كانت أمسية من أمسيات الصيف الجميلة ، كنا نجلس فى أحد الكافتريات المطلة على النيل ، فى جو حالم من الرومانسية .. بدت على وجهها بعض علامات الانشغال والتفكير .. وربما القلق ، فكانت تراوح بعينيها بينى وبين اللانهاية .. كانت تحاول الهرب بعينيها كلما نظرت إليها ، كانت تريد أن تقول شيئا ، لكنها كانت مترددة .. أو ربما كانت لا تعرف كيف تبدأ ، وكنت بطبعى لا أحب أن أسبب لها حرجا فى الحديث إلا فيما تريد هى ، خاصة فيما يعتريها من مشاعر .. لكننى كنت أرنو إليها من آن لآخر .. وكانت هى تحب هذا الأسلوب فى العامل ، فأترك لها المجال فى إختيار الوقت المناسب والكلمات التى تعبر بها عما تريد أن تقول .. بما يناسبها نفسياً ..
مرت دقائق .. ثم نظرت الى قائلة :
- هناك أمراً أريد أن أستشيرك فيه ..
- تفضلى ..
( لحظات من الصمت ناظرة الى الضفة المقابلة من النيل ، ثم بدأت الحديث) :
( 8 )
قابلته صدفة .. بعد أن مرت سنين لم يلتقيا خلالها منذ أن تخرجا من الجامعة ..
كان زميلاً لها منذ العام الدراسى الأول ، أسمر البشرة ، نحيف الجسد ، متوسط الطول ، من أسرة بسيطة تقطن فى حى شعبى ، ولكنه كان شديد الذكاء ، حاضر البديهة ، لبق الحديث ، واسع الأفق ، مثقف .. يتقن العلاقات العامة .. وكان فوق ذلك تفوقاً فى دراسته .. ومن الأوائل دائما ..
كانت تلمس منه إهتماما خاصا بها خلال مراحل الدراسة .. وكان يحاول دائما أن ينفرد بها كلما سمحت الظروف ليتحدث معها فى أحاديث شخصية ، وتكررت اللقاءات بينهما فيما يشبه الزمالة الحميمة ...
وفى العام الأخير من الدراسة الجامعية .. فاتحها برغبته فى التقدم لخطبتها ، على أن يتم الزواج بعد التخرج مباشرة ، ولكنها وفقا للمعايير التى وضعتها لفتى أحلامها آنذاك لم تكن تنطبق عليه .. فإعتذرت له بلباقة بأن ظروفها العائلية لا تسمح بذلك ، وفضلت أن تكون العلاقة بينهما فى إطار الزمالة والأخوة .. حتى أنهيا العام الدراسى .. وذهب كل فى طريق ، ولم تسمح الظروف بأن يلتقيا بعد ذللك .. أو يعلم أى منهما شيئا عن الآخر ....
وعندما إلتقيا صدفة .. سألها عن حالها وأخبارها ، فردت عليه بإجابات عامة ، ثم إستنتج من حديثها بأنها غير مرتبطة ، ولكنها مرت بتجربة خطوبة فاشلة .. فلم يتردد فى دعوتها لتناول قدحاً من الشاى ليستكملا الحديث .. فوافقت .
عرفت منه إلتحق بوزارة الخارجية فى السلك الدبلوماسى ، وأنه يعمل حاليا بمنصب " سكرتير ثالث " فى سفارتنا بنيجيريا .. وأنه لم يتزوج بعد .. كما أنه مازال يبحث عن الانسان المناسبة لتشاركه حياته ، وأنه يقضى أجازة سنوية يتمنى أن ينتهى فيها من هذا الموضوع ..
جدد عرضه عليها بالزواج ... والسفر معه الى مقر عمليه بالعاصمة النيجيرية "لاجوس" ووعد بالانتهاء من تجهيز منزل الزوجية هناك فيما لا يزيد عن شهرين من تاريخ عقد الزواج على الأكثر .. فطلبت منه مهلة للتفكير قبل الاجابة عليه برأيها فى هذا العرض .. فوافق على ما تريد ...
كانت هذه التطورات هى سبب حيرتها عندما إلتقينا ذلك المساء .. وطلبت منى إبداء الرأى فيما سمعت .. وكانت تشعر بأن هذا الأمر سيكون صعباً على نفسى من الناحية العاطفية ، فهى بحكم ذكائها .. كانت تعلم مشاعرى نحوها ... ولكنها كانت تعرف فى نفس الوقت بأننى ممن يفرقون بين عواطفهم وعقولهم عند الحاجة .. ومن هذا المنطلق ، طلبت منى الرأى والمشورة ..
وبعد دقائق من الصمت .. سألتنى أيضا عن مدى الصراحة التى تعرض بها الظروف التى مرت بها مع ذلك الوغد الذى تلاعب بها .. وسلب منها أعز ماتملك المرأة ، ولم تجد منه سوى الغدر ، وإفتقاد الضمير ...
كانت حائرة بين العرض الذى تلقته بالزواج ، وبين الاستمرار فى الدعوى القضائية التى كانت معروضة آنذاك أمام المحكمة ولم تصل فيها الى مرحلة الحكم النهائى بحقوقها ....
تناقشنا فى الأمر بالعقل والمنطق كما تعودنا .. وأحسست برغبتها فى قبول عرضه بالزواج ، خاصة أن سفرها خارج البلاد كان هدفاً لطى صفحة الماضى والبعد عن كل ماكان يذكرها بآلامها الماضية ..
إتفقنا على ضرورة الصراحة المطلقة بكل ما أحاط بها من ظروف فى زواجها الأول ، وأنه لم يكن مجرد خطوبة فاشلة كما أخبرته من قبل عندما إلتقيا صدفة .. حتى تقطع الطريق على أى إنسان يفكر فى أن ينسف حياتها الجديدة مع من تقترن به .. كما رأينا أنه طالما ستبدأ حياة جديدة مع إنسان محترم يحبها ويقدرها فإن الله بذلك عوضها عما فقدت .. فلا داع للاستمرار فى الدعوى القضائية .. وأنها يجب أن تكون على ثقة بأن الله سينتقم لها ممن ظلمها حتى لو تنازلت هى عن حقها ... ويجب أن تبدأ مرحلة جديدة من حياتها .....
إلتقيا مرة أخرى .. وصارحته بكل شيئ ، فبدت عليه علامات القلق والتردد ، فلقد كان عرضه عليها ظناً منه أن تجربتها لم تصل الى مرحلة الزواج الكامل .. بل كانت مجرد خطبة .. ولم يكن يتوقع ماسمع منها ، فطلب منها إمهاله ثلاثة أيام للتفكير فى الأمر فى ظل ما إستجد من معلومات أخبرته بها ... وأخبرها بأنه إذا قرر الموافقة على الارتباط .. فسوف يتصل بها قبل الإنتهاء من مهلة الأيام الثلاثة أما إذا لم يتصل بها .. فإن ذلك سيعنى سحب عرضه عليها ...
كنا نلتقى يوميا خلال المهلة .. نتدارس ونتوقع ، وننتظر ، وكنت آنذاك على وشك الإلتحاق بالقوات المسلحة لقضاء فترة التجنيد الاجبارى إستعدادا لحرب تحرير سيناء ( أكتوبر 1973 ) وكان متبقيا لى شهراً واحداً على ذلك ...
مرت الأيام الثلاثة .. وأتصل بها ، وتقابلا .. وإتفقا على كل شيئ ، وتلاقت مشاعر الحزن والفراق ، مع مشاعر الأمل والفرح ، وتغلبت مشاعر الإيثار على حب الذات .. ولم يكن هناك مكاناً للأنانية ، بل التمنى المخلص بمستقبل سعيد يعوض ما فات .. بعيون دامعة ، وقلب يتألم .. إفترقنا ، وذهب كل الى طريق .
إلتحقت أنا بالقوات المسلحة .. وبدأنا التدريب العسكرى ، مرحلة جديدة من حياتى كانت قاسية من كافة جوانبها ، عاطفياً .. ومعاناة مع الطبيعة القاسية بين الجبال فى أعماق الصحراء .. بدأتها ولم أكن أعرف ما يخبئه القدر ، ونحن مقدمون على حرب مع العدو الصهيونى ، ولا يعرف مصيرها إلا الله ...
ذهبت هى الى " لاجوس " .. طارت ، وطار قلبى معها .. ولم تترك لى سوى الذكريات ، ولكنها عاهدتنى قبل سفرها على إستمرار الاتصال والمراسلة ليطمئن كل منا على الآخر ، وإعترفت بأن مكانتى لديها لا يمكن أن تتزعزع أو تتأثر .. وأن صورتى لا يمكن أن تهتز مهما طال الزمن .. ومهما باعدت بيننا المسافات ، وتغيرت الظروف .. كما يقولون " اللى فى القلب .. حايفضل فى القلب " ...
( 9 )
مضت خمس سنوات ..
إنقطعت فيها الاتصالات ، ربما لأسباب خارجة عن إرادتنا ، وتخللت تلك الفترة حرب تحرير سيناء والتى حققنا فيها النصر بمشيئة الله ، وما أن تقرر خروجى من القوات المسلحة بعد إنقضاء فترة تجنيدى ، حتى عدت الى عملى ، وتوليت مسؤلياتى الجديدة ، وتغير موقع مكتبى .. ومرت الأيام ..
كنت جالسا بمكتبى ذات يوم ، وفى منتصف النهار .. فوجئت بها أمامى ، رأيتها على نفس الصورة التى رأيتها عليها أول مرة ، مازالت جميلة .. وأنيقة ، كانت كما تركتها منذ خمس سنوات ..
كم كانت مفاجأة رائعة أن نلتقى مرة أخرى بعد طول غياب ، وعلى غير موعد .. فكان هذا دليلاً على الوفاء بوعدها .. أن صداقتنا دائمة ولن تنتهى ، مهما تبدلت الأحوال ، وتغيرت الظروف .. كانت مشاعر صادقة حقاً ، تجلت بالوفاء والحب ..
جلسنا لحظات .. يحاول كل منا أن يشبع نظره بصورة الآخر بعد طول غياب ، حتى جاء عامل الكافيتريا ، وطلبت لها عصير الليمون كما تعودت منى عندما كنا نلتقى ، تبادلنا الأسئلة عن الأحوال ، وعن أحداث سنوات الفراق ، كان كل منا فى لهفة ليعرف أخبار الآخر ...
كانت قد قضت مع زوجها نحو عام فى " نيجيريا " ، إنتقلا بعدها الى القاهرة حيث مكثا هناك أربعة سنوات ، ترقى بعدها الزوج الى درجة سكرتير ثان ، وتم تعيينه فى سفارتنا بالفاتيكان بروما ، حيث كانا يستعدان للسفر عندما إلتقينا ، لذا كانت حريصة على أن ترانى قبل سفرها ...
أنجبت خلال تلك الفترة زهرتان جميلتان .. أخذتا عنها صفات الجمال والرقة ، وعاشت الأسرة الصغيرة فى سعادة ، وحاول زوجها أن يعوضها ما عانته آلآم قبل إقترانها به .. وكان مثالاً للرجل الدبلوماسى الذى يعرف كيف يتعامل مع الجنس اللطيف كما يسمونه ، وكان يحبها حباً صادقاً .. جماً .....
كنت فى ذلك الوقت قد بدأت أولى خطواتى للزواج .. وتبادلنا الأخبار ، وما طرأ على حياتنا من تطورات ، وكان كل منا يحرص على ألا يسيئ الى الآخر بأى تصرف أو كلمة .. حفاظا على الإستقرار الأسرى .. والسعادة المنشودة ..
إفترقنا مرة أخرى .. إفترقنا على أمل اللقاء الذى لم نعرف له موعداً .. سافرت هى الى " روما " حيث كان يتعين على زوجها أن يقضى هناك أربعة أعوام وفقا لنظام العمل الديبلوماسى .. فكنا نلتقى كل صيف خلال أجازتها الصيفية ، وحرصنا على أن يكون اللقاء فى إطار إجتماعى مع الزملاء والأصدقاء فى النادى ، وكان يشاركنا فى هذه اللقاءات أحيانا زوجها .. الذى أحب فينا مشاعر الأخوة ..
وما أن انتهت فترة عمل زوجها فى " روما " حتى تم نقله الى سفارتنا فى "نيوزيلاندا " حيث فترة عمل جديدة لمدة أربعة سنوات بعد ترقيته الى درجة "سكرتير أول " ...
ألحقت إبنتيها فى المدارس التى تقع فى أحد ضواحى العاصمة ، وكانت تقوم بتصويلهن ذهابا وإيابا يوميا بسيارتها الخاصة ، لتطمئن عليهن ... فقد كانتا تمثلان ثمرة حبها من الرجل الذى قدرها ، وعرف قيمتها ..
ذات صباح .. كان الشتاء بارداً .. غطت الثلوج الجبال المتصبة على جانبى الطريق الذى تمر منه الى مدرسة إبنتيها يوميا ، وبعد أن أوصلتهن الى المدرسة فى ذلك الصباح وودعتهن بالقبلات كالمعتاد .. إنصرفت عائدة الى منزلها ..
فى منتصف الطريق .. كان للقدر رأى آخر .. لقد كتب القدر تلك النهاية المأساوية التى غيبتها عن العالم فى ثوان معدودات .. إنهارت فوقها بعضا من الجبال الجليدية ، ودفنت بسيارتها تحت الجليد ، وعندما وصلت سلطات الانقاذ ، كان كل شيئ قد إنتهى .. ذهبت .. غابت الى الأبد .. أصبحت ذكرى لن تنسى ...
ذهبت ..
ذهبت دون وداع .. دون رجوع ..
تركتنا نسبح ملتاعين .. فى نهر دموع ..
باتت فى ظلمة قبر أبيض .. دون شموع ..
والأمل مازال يراودنى .. بيوم رجوع ..
هيهات ليوم قد ترجع بعد ذهاب مفجوع ..
لا نملك إلا أن نرضى بقضاء البارى ..
وبكل خشوع ...
==================================